تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٤ - الصفحة ١٠٧
هي الاستظهار بما عندهم وأن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم معهم ضرب من الاجتهاد فما وافق رأيه عمل به وما خالفه ترك من غير لوم، وفيه إرشاد للاجتهاد وجوازه بحضرته صلى الله عليه وسلم وإشعار بمنزلة الصحابة وأنهم كلهم أهل اجتهاد وأن باطنهم مرضي عند الله تعالى " انتهى، وفيه نظر إذ لا خفاء على من راجع وجدانه أن في قول الكبير للصغير ماذا ترى في أمر كذا وماذا عندك فيه تطييبا لنفسه وتنشيطا لها لاكتساب الآراء وإعمال الفكر لا سيما إذا صادف رأيه رأي الكبير أحيانا وإن لم يكن العمل برأيه الموافق بل العمل بالرأي الموافق، وما ادعاه من أن الرأي إذا لم يكن معمولا به كان فيه إيحاش غير مسلم لا سيما فيما نحن فيه لعلم الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعلو شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن عقولهم بالنسبة إلى عقله الشريف كالسها بالنسبة إلى شمس الضحى، على أن من قال: إن فادة المشاورة تطييب النفس أشار إلى أن الوحي يأتيه فهو غني عنها، وحينئذ يكون قصد التطييب أتم وأظهر لما في المشاورة إذ ذاك من تعريضهم لما يمكن أن يوافق الوحي والإيحاش بعدم العمل هنا أبعد لأن مستنده اتباع الوحي ومعلوم لديهم أنه أولى بالاتباع لأنه من قبل الله تعالى اللطيف الخبير كما لا يخفى، ثم ما ذكر من أن في ذلك إشعارا بأن الصحابة كلهم أهل اجتهاد في حيز المنع لأن أمر السلطان مثلا لعامله أن يشاور أهل بلده في أموره لا يستدعي أن يشاور كل واحد واحد منهم في ذلك بل لا يكاد أن يكون ذلك مرادا أصلا بل المراد أن يشاور أهل الآراء منهم والمتدربين فيهم، وكون الصحابة كلهم كذلك أول المدعى، ودون إثباته وقعة الجمل وحرب صفين. ويؤيد كون المراد من الصحابة - المأمور صلى الله عليه وسلم بمشاورتهم أهل الرأي والتدبير لا مطلقا بما أخرجه الحاكم وصححه والبيهقي في " سننه " عن ابن عباس أنه قال في * (وشاورهم في الأمر) *: أبو بكر وعمر، ومن طريق الكلبي عن أبي صالح عن الحبر أن الآية نزلت فيهما، نعم لو كانت المشاورة لمجرد تطييب النفوس دون الاستظهار كان لمشاورة أي واحد منهم وإن لم يكن من أرباب الرأي وجه لكن الجصاص لم يبن كلامه على ذلك. بقي أن بين ما أخرجه الإمام أحمد من قوله صلى الله عليه وسلم للعمرين رضي الله تعالى عنهما: " لو اجتمعتما على مشورة ما خالفتكما " وأما أخرجه ابن عدي والبيهقي من قوله عليه الصلاة والسلام عند نزول الآية " أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي " تنافيا إلا أن يحمل خبر عدم مخالفتهما لو اجتمعا على الإشارة إلى رفعة قدرهما وعلو شأنهما وأن اجتماعهما على أمر لا يكون إلا موافقا لما عند الله تعالى وهو الذي عليه المعول وبه العمل، وكأن في قوله صلى الله عليه وسلم: " ما خالفتكما " دون لعملت بقولكما مثلا نوع إشعار بما قلنا فتدبر، وقرأ ابن عباس كما أخرج البخاري في " الأدب المفرد " عنه * (وشاورهم في بعض الأمر) *.
* (فإذا عزمت) * أي إذا عقدت قلبك على الفعل وإمضائه بعد المشاورة كما تؤذن به الفاء. * (فتوكل على الله) * أي فاعتمد عليه وثق به وفوض أمرك إليه فإنه الأعلم بما هو الأصلح، وأصل التوكل إظهار العجز والاعتماد على الغير والاكتفاء به في فعل ما يحتاج إليه، وهو عندنا على الله سبحانه لا ينافي مراعاة الأسباب بل يكون بمراعاتها مع تفويض الأمر إليه تعالى شأنه و " اعقلها وتوكل " يرشد إلى ذلك، وعند ساداتنا الصوفية هو إهمال التدبير بالكلية، وعن جابر بن زيد أنه قرأ * (فإذا عزمت) * بصيغة المتكلم، والمعنى فإذا قطعت لك بشيء وعينته لك فتوكل علي ولا تشاور به أحدا، والالتفات لتربية المهابة وتعليل التوكل والأمر
(١٠٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 ... » »»