الأول، ومن المعلوم أن التزام هذه المحذورات لا تليق بأقل الناس علما فضلا عن أفضل العلماء وأعلم الفضلاء. فالحق أن هذا ليس دليلا آخر ولا مثال بل هو من تتمة الدليل الأول، وذلك أنه لما احتج إبراهيم عليه السلام بالإماتة والاحياء أورد الخصم عليه سؤالا وهو أنك إن ادعيت الإحياء والاماتة بلا واسطة فذلك لا تجد إلى إثباته سبيلا وإن ادعيت حصولهما بواسطة حركات الأفلاك فنظيره أو ما يقرب منه حاصل للبشر فأجاب الخليل عليه السلام بأن الإحياء والإماتة وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك لكن تلك الحركات حصلت من الله تعالى وذلك لا يقدح في كون الاحياء والاماتة منه بخلاف الخلق فإنهم لا قدرة لهم على تحريك الأفلاك فلا جرم لا يكون الإحياء والإماتة صادرين منهم، ومتى حملت الآية على هذا الوجه لم يلزم شيء من المحذورات عليه انتهى.
ولا يخفي ما فيه. أما أولا: فلأن الشبهة إذا كانت في غاية السقوط ونهاية البطلان بحيث لا يكاد يخفى حالها ولا يغر أحدا من الناس الها لم يمتنع الإعراض عنها إلى ما هو بعيد عن التمويه دفعا للشغب وتحصيلا لما هو المقصود من غير كثير تعب، ولا يوجب ذلك سقوط وقع ولا حقارة شأن وأي تلبيس يحصل من هذه الشبهة للعقول حتى يكون الاشتغال بإزالتها واجبا مضيقا فيخل تركه بالمعصوم على أنه روي أنه ما انتقل حتى بين للمارد فساد قوله حيث قال له: إنك أحييت الحي ولم تحي الميت، وعن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال له: أحي من قتلته إن كنت صادقا لكن لم يقص الله تعالى ذلك الإلزام علينا في الكتاب اكتفاءا بظهور الفساد جدا، وأما ثانيا: فلأنه من الواضح أن المنتقل إليه أوضح في المقصود من المنتقل عنه ويكاد القول بعكسه يكون مكابرة، وما ذكره في معرض الاستدلال لا يخفى ما فيه، وأما ثالثا: فلأن ما ذكره رابعا يرد أيضا على الوجه الذي اختاره إذ لا يؤمن المارد من أن يقول لو كانت حركات الأفلاك من ربك فقل له حتى يطلعها من المغرب - فما هو الجواب هنا هو الجواب - وقد أجابوا عن عدم قول اللعين ذلك بأن المحاجة كانت بعد خلاصه من النار فعلم أن من قدر على ذلك قدر على الاتيان بالشمس من مغربها فسكت، أو بأن الله تعالى أنساه ذلك نصرة لنبيه عليه السلام - وهو ضعيف - بل الجواب أنه عليه السلام استدل بأنه لا بد للحركة المخصوصة والمتحرك بها من محرك لأن حاجة المتحرك في الحركة إلى المحرك بديهية، وبديهي أنه ليس بنمروذ فقال: هو ذا ربي فإن ادعيت أنك الذي تفعل فأت بها من المغرب وهذا لا يتوجه عليه السؤال بوجه إذ لو ادعى أن الحركة بنفسها - مع أنها مسبوقة بالغير ولو بآحاد الحركات - كان منع البديهي ولو ادعى أنه الفاعل مع ظهور استحالته ألزم بالتغيير عن تلك الحالة فلا بد من الاعتراف بفاعل يأتي بها من المشرق، والمدعي أن ذلك الفاعل هو الرب، وأما رابعا: فلأن ما اختاره لا تدل عليه الآية الكريمة بوجه، وليس في كلام الكافر سوى دعواه الإحياء والإماتة ولم يستشعر منها بحث توسط حركات الأفلاك ولم يوقف له على أثر ليجاب بأن تلك الحركات أيضا من الله تعالى فلا يقدح توسطها في كون الاحياء والاماتة منه تعالى شأنه - ولا أظنك في مرية من هذا - ولعل الأظهر ما ذهب إليه الإمام ما ذكره بعض المحققين من أن المارد لما كان مجوزا لتعدد الآلهة لم يكن مدعيا أنه إله العالم ولو ادعاه لجنن على نحو من مذهب الصائبة أن الله تعالى فوض إلى الكواكب التدبير والأفعال من الإيجاد وغيره منسوبة إليهن، فجوز أن يكون في الأرض أيضا من يفوض إليه إما قولا بالحلول أو لاكتساء خواص فلكية أو غير ذلك أراد إبراهيم عليه السلام أن ينبه على قصوره عن هذه الرتبة وفساد رأيه من جهة علمه الضروري بأنه مولود أحدث بعد أن لم يكن