تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٣ - الصفحة ١٥٣
ألا تكلم الناس) * بأن يحصر لسانك عن محادثتهم ليتجرد سرك لربك ويكون ظاهرك وباطنك مشغولا به * (إلا رمزا) * تدفع به ضيق القلب عند الحاجة، وحقيقة الرمز عند العارفين تعريض السر إلى السر وإعلام الخاطر للخاطر بنعت تحريك سلسلة المواصلة بين المخاطب والمخاطب * (واذكر ربك كثيرا) * بتخليص النية عن الخطرات وجمع الهموم بنعت تصفية السر في المناجاة وتحير الروح في المشاهدات * (وسبح) * أي نزه ربك عن الشركة في الوجود * (بالعشي والإبكار) * بالفناء والبقاء.
وإن أردت تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس فتقول: * (هنالك دعا زكريا) * الاستعداد * (ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة) * وهي النفس الطاهرة المقدسة عن النقائص * (إنك سميع الدعاء) * (آل عمران: 38) ممن صدق في الطلب * (فنادته) * ملائكة القوى الروحانية * (وهو قائم) * منتهض لتكميل النشأة * (يصلي) * ويدعو في محراب التضرع إلى الله تعالى المفيض على القوابل بحسب القابليات * (أن الله يبشرك بيحيى) * وهو الروح الحي بروح الحق والصفات الإلهية * (مصدقا بكلمة من الله) * وهي ما تلقيها ملائكة الإلهام من قبل الفياض المطلق * (وسيدا) * لم تملكه الشهوات النفسانية * (وحصورا) * أي مبالغا في الامتناع عن اللذائذ الدنيوية * (ونبيا) * بما يتلقاه من عالم الملكوت ومعدودا * (من الصالحين) * (آل عمران: 39) لهاتيك الحضرة القائمين بحقوق الحق والخلق لاتصافه بالبقاء بعد الفناء * (قال رب أنى) * أي كيف * (يكون لي غلام وقد بلغني الكبر) * وضعف القوى الطبيعية * (وامرأتي) * وهي النفس الحيوانية * (عاقر) * عقيم عن ولادة مثل هذا الغلام إذ لا تلد الحية إلا حيية * (قال كذلك الله) * في غرابة الشأن * (يفعل ما يشاء) * (آل عمران: 40) من العجائب التي يستبعدها من قيده النظر إلى المألوفات، وبقي أسيرا في سجن العادات * (قال رب اجعل لي آية) * على ذلك لأشكرك مستمطرا زيادة نعمك التي لا منتهى لها * (قال آيتك ألا تكلم الناس) * وهم ما يأنس به من اللذائذ المباحة * (ثلاثة أيام) * وهي يوم الفناء بالأفعال ويوم الفناء بالصفات ويوم الفناء بالذات * (إلا رمزا) * أي قدرا يسيرا تدعو الضرورة إليه * (واذكر ربك) * الذي رباك حتى أوصلك إلى هذه الغاية * (كثيرا) * حيث من عليك بخير كثير * (وسبح) * أي نزه ربك عن نقائص التقيد بالمظاهر * (بالعشي والإبكار) * أي وقتي الصحو والمحو. وبعض الملتزمين لذكر البطون ذكر في تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس أن القوى البدنية امرأة عمران الروح نذرت ما في قوتها من النفس المطمئنة فوضعت أنثى النفس فكفلها زكريا الفكر فدخل عليها زكريا محراب الدماغ فوجد عندها رزقا من المعاني الحدسية التي انكشفت لها بصفائها فهنالك دعا زكريا الفكر بتركيب تلك المعاني واستوهب ولدا مقدسا من لوث الطبيعة فسمع الله تعالى دعاءه فنادته ملائكة القوى الروحانية وهو قائم في أمره بتركيب المعلومات يناجي ربه باستنزال الأنوار في محراب الدماغ * (أن الله يبشرك بيحيى) * العقل مصدقا بعيسى القلب الذي هو كلمة من الله لتقدسه عن عالم الأجرام * (وسيدا) * لجميع أصناف القوى * (وحصورا) * عن مباشرة الطبيعة * (ونبيا) * بالإخبار عن المعارف والحقائق وتعليم الأخلاق ومنتظما في سلك الصالحين وهم المجردات ومقربو الحضرة * (قال (رب) أنى يكون) * ذلك * (وقد بلغني) * كبر منتهى الطور * (وامرأتي) * وهي طبيعة الروح النفسانية * (عاقر) * بالنور المجرد فطلب لذلك علامة فقيل له: علامة ذلك الإمساك عن مكالمة القوى البدنية في تحصيل مآربهم من اللذائذ * (ثلاثة أيام) * كل يوم عقد تام من أطوار العمر وهو عشر سنين * (إلا) * بالإشارة الخفية، وأمر بالذكر في هذه الأيام التي هي مع العشر الأول التي هي سن التميز أربعون سنة
(١٥٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 148 149 150 151 152 153 154 155 156 157 158 ... » »»