تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٣ - الصفحة ١٥٨
لأن هذا الجمع أعم إذ يشمل الرجال والنساء على سبيل التغليب، ولمناسبة رؤوس الآي، ولأن الاقتداء بالرجال أفضل إن قلنا: إنها مأمورة بصلاة الجماعة. وادعى بعضهم أن في التعبير بذلك مدحا ضمنيا لمريم عليها السلام ولم يقيد الأمرين الأخيرين بما قيد به الأمر الأول اكتفاءا بالتقييد من أول وهلة، وقال شيخ الإسلام: إن تجريد الأمر بالركنين الأخيرين عما قيد به الأول لما أن المراد تقييد الأمر بالصلاة بذلك، وقد فعل حيث قيد به الركن الأول منها، ولعل ما ذكرناه أولى لأنه مطرد على سائر الأقوال في القنوت، وأهرج ابن أبي داود في " المصاحف " عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه كان يقرأ (واركعي واسجدي في الساجدين).
* (ذالك من أنبآء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقل‍امهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون) *.
* (ذالك) * إشارة إلى ما تقدم ذكره من تلك الأخبار البديعة الشأن المرتقية من الغرابة إلى أعلى مكان، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: * (من أنبآء الغيب) * أي من أخبار ما غاب عنك وعن قومك مما لا يعرف إلا بالوحي على ما يشير إليه المقام، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وقوله تعالى: * (نوحيه إليك) * جملة مستقلة مبينة للأولى، و - الإيحاء - إلقاء المعنى إلى الغير على وجه خفي، ويكون بمعنى إرسال الملك إلى الأنبياء، وبمعنى الإلهام، والضمير في * (نوحيه) * عائد إلى ذلك في المشهور، واستحسن عوده إلى الغيب لأنه حينئذ يشمل ما تقدم من القصص وما لم يتقدم منها بخلاف ما إذا عاد إلى ذلك فإنه حينئذ يوهم الاختصاص بما مضى، وجوز أن تكون هذه الجملة خبرا عن المبتدأ قبلها، و * (من أنباء الغيب) * إما متعلق - بنوحيه - أو حال من مفعوله أي: نوحيه حال كونه بعض أنباء الغيب وجعله حالا من المبتدأ رأي البعض، وجوز أبو البقاء أن يكون التقدير: الأمر ذلك فيكون * (ذلك) * خبرا لمبتدأ محذوف والجار والمجرور حال منه، وهو وجه مرذول لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الملك الجليل. وصيغة الاستقبال عند قوم للإيذان بأن الوحي لم ينقطع بعد * (وما كنت لديهم) * أي عند المتنازعين فالضمير عائد إلى غير مذكور دل عليه المعنى، والمقصود من هذه الجملة تحقيق كون الأخبار بما ذكر عن وحي على سبيل التهكم بمنكريه كأنه قيل: إن رسولنا أخبركم بما لا سبيل إلى معرفته بالعقل مع اعترافكم بأنه لم يسمعه ولم يقرأه في كتاب، وتنكرون أنه وحي فلم يبق مع هذا ما يحتاج إلى النفي سوى المشاهدة التي هي أظهر الأمور انتفاءا لاستحالتها المعلومة عند جميع العقلاء، ونبه على ثبوت قصة مريم مع أن ما علم بالوحي قصة زكريا عليه السلام أيضا لما أن * (تلك) * هي المقصودة بالأخبار أولا، وإنما جاءت القصة الأخرى على سبيل الاستطراد ولاندراج بعض قصة زكريا في ذكر من تكفل فما خلت الجملة عن تنبيه على قصته في الجملة، وروي عن قتادة أن المقصود من هذه الجملة تعجيب الله سبحانه نبيه عليه الصلاة والسلام من شدة حرص القوم على كفالة مريم والقيام بأمرها، وسيق ذلك تأكيدا لاصطفائها عليها السلام ويبعد هذا الفصل بين المؤكد والمؤكد، ومع هذا هو أولى مما قيل: إن المقصود منها التعجيب من تدافعهم لكفالتها لشدة الحال ومزيد الحاجة التي لحقتهم حتى وفق لها خير الكفلاء زكريا عليه السلام، بل يكاد يكون هذا غير صحيح دراية ورواية، وعلى كل تقدير لا يشكل نفي المشاهدة مع ظهور انتفائها عند كل أحد. * (إذ يلقون أقلامهم) * أي يرمونها ويطرحونها للاقتراع، و - الأقلام - جمع قلم وهي التي كانوا يكتبون
(١٥٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 153 154 155 156 157 158 159 160 161 162 163 ... » »»