نزلت ردا عليهم حيث أكثروا الخوض في أمر القبلة وادعى كل طائفة حصر - البر - على قبلته ردا على الآخر فرد الله تعالى عليهم جميعا بنفي جنس البر عن قبلتهم لأنها منسوخة، فتعريفه للجنس لإفادة عموم النفي - لا للقصر - إذ ليس المقصود نفي القصر أو قصر النفي. ويحتمل أن يكون الخطاب عاما لهم وللمسلمين - فيكون عودا على بدء - فإن الكلام في أمر القبلة وطعنهم في النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كان أساس الكلام إلى هذا القطع، فجعل خاتمة كلية أجمل فيها ما فصل. والمراد من ذكر المشرق والمغرب التعميم - لا تعيين السمتين - وتعريف البر حينئذ إما للجنس فيفيد القصر، والمقصود نفي اختصاص البر بشأن القبلة مطلقا على ما يقتضيه الحال من كثرة الاشتغال والاهتمام بذلك والذهول عما سواه، وإما لعهد أي ليس البر العظيم الذي أكثرتم الخوض فيه وذهلتم عما سواه ذلك، وقدم المشرق على المغرب مع تأخر زمان الملة النصرانية رعاية لما بينهما من الترتيب المتفرع على ترتيب الشروق والغروب، وقرأ حمزة وحفص - البر - بالنصب والباقون بالرفع ووجه الأول: أن يكون خبرا مقدما كما في قوله: سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم * فليس (سواءا) عالم وجهول وحسن ذلك أن المصدر المؤول أعرف من المحلى باللام لأنه يشبه الضمير من حيث إنه لا يوصف ولا يوصف به والأعرف أحق بالاسمية ولأن في الاسم طولا فلو روعي الترتيب المعهود لفات تجاوب أطراف النظم الكريم، ووجه الثانية: أن كل فريق يدعي أن البر هذا فيجب أن يكون الرد موافقا لدعواهم وما ذلك إلا بكون البر اسما كما يفصح عنه جعله مخبرا عنه في الاستدراك. وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: * (ليس البر) * بالنصب بأن تولوا - بالباء - * (ولاكن البر من ءامن بالله) * تحقيق للحق بعد بيان بطلان الباطل، و - ال - في البر إما للجنس فيكون القصر ادعائيا لكمال ذلك الجنس في هذا الفرد، وإما للعهد أي ما ينبغي أن يهتم به ويعتني بشأنه ويجد في تحصيله، والكلام على حذف مضاف أي - بر من آمن - إذ لا يخبر بالجثة عن المعنى ويجوز أن لا يرتكب الحذف ويجعل المصدر بمعنى اسم الفاعل أو يقال باطلاق البر على البار مبالغة، والأول أوفق لقوله: * (ليس البر) * وأحسن في نفسه لأنه كنزع الخف عند الوصول إلى الماء ولأن المقصود من كون ذي البر من آمن إفادة أن البر إيمانه فيؤول إلى الأول. والمراد بهذا الإيمان إيمان خال عن شائبة الإشراك لا كإيمان اليهود والنصارى القائلين - عزيز ابن الله والمسيح ابن الله - وقرأ نافع وابن عامر (ولكن) بالتخفيف، وقرأ بعضهم البار بصيغة اسم الفاعل.
* (واليوم الأخر) * أي المعاد الذي يقول به المسلمون وما يتبعه عندهم * (والملا - ئكة) * أي وآمن بهم وصدق بأنهم عباد مكرمون لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة ومنهم المتوسطون بينه تعالى وبين أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام بإلقاء الوحي وإنزال الكتب * (والكتاب) * أي جنسه فيشمل جميع - الكتب - الإلهية لأن البر الإيمان بجميعها وهو الظاهر الموافق لقرينه ولما ورد في الحديث: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله " أو القرآن لأنه المقصود بالدعوة والكامل الذي يستأهل أن يسمى كتابا والإيمان به الإيمان بجميع الكتب لكونه مصدقا لما بين يديه، وقيل: التوراة ويبعده عدم ظهور القرينة المخصصة لها وأن الإيمان بها لا يستلزم الإيمان بالجميع إلا باعتبار استلزامه الإيمان بالقرآن، والإيمان بالكتب أن يؤمن بأنها كلام الرب جل شأنه منزهة عن الحدوث منزلة على ذويها ظاهرة لديهم حسبما اقتضته الحكمة من اللغات * (والنبين) * أي جميعهم من غير تفرقة بين أحد منهم كما فعل أهل الكتابين والإيمان بهم أن يصدق بأنهم معصومون مطهرون وأنهم أشرف الناس