لما لم يكن الاختلاف إلا من الذين أوتوه - فالاختلاف لا يكون سابقا على البعثة - وحاصله أن المراد ههنا استحكام الاختلاف واشتداده، وعبر عن - الإنزال بالإيتاء - للتنبيه من أول الأمر على كمال تمكنهم من الوقوف على ما فيه من الحق فإن - الإنزال - لا يفيد ذلك، وقيل: عبر به ليختص الموصول بأرباب العلم والدراسة من أولئك المختلفين، وخصهم بالذكر لمزيد شناعة فعلهم ولأن غيرهم تبع لهم * (من بعد ما جآءتهم البينات) * أي رسخت في عقولهم الحجج الظاهرة الدالة على الحق، و * (من) * متعلقة ب * (اختلفوا) * محذوفا، والحصر على تسليم أن يكون مقصودا مستفاد من المقام أو من حذف الفعل، ووقوع الظرف بعد حرف الاستثناء لفظا، أو من تقدير المحذوف مؤخرا - وفي " الدر المصون " تجويز تعلقه بما اختلف قبله - ولا يمنع منه إلا كما قاله أبو البقاء، وللنحاة في هذا المقام كلام محصله أن استثناء شيئين بأداة واحدة بلا عطف غير جائز مطلقا عند الأكثرين، لا على وجه البدل ولا غيره - ويجوز عند جماعة مطلقا - وفصل بعضهم إن كان المستثنى منه مذكورا مع كل من المستثنيين وهما بدلان جاز - وإلا فلا - واستدل من أجاز مطلقا بقوله تعالى: * (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي) * (هود: 27) فإنه لم يذكر فيه المستثنى أصلا، والتقدير: ما نراك اتبعك أحد في حال إلا أراذلنا في بادي الرأي وأجاب من لم يجوز بأن النصب بفعل مقدر أي: اتبعوا وبأن الظرف يكفيه رائحة الفعل فيجوز فيه ما لا يجوز في غيره - قاله الرضي - وهو مبنى الاختلاف في الآية، وقوله تعالى: * (بغيا بينهم) * متعلق بما تعلق به * (من) * و - البغي - الظلم أو الحسد، و * (بينهم) * متعلق بمحذوف صفة * (بغيا) * وفيه إشارة - على ما أرى - إلى أن هذا - البغي - قد باض وفرخ عندهم، فهو يحوم عليهم ويدور بينهم لا طمع له في غيرهم، ولا ملجأ له سواهم، وفيه إيذان بتمكنهم في ذلك وبلوغهم الغاية القصوى فيه - وهو فائدة التوصيف بالظرف - وقيل: أشار بذلك إلى أن البغي أمر مشترك بينهم وأن كلهم سفل، ومنشأ ذلك مزيد حرصهم في الدنيا وتكالبهم عليها * (فهدى الله الذين ءامنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه) * أي بأمره أو بتوفيقه وتيسيره، و * (من) * بيان * (لما) * والمراد للحق الذي اختلف الناس فيه - فالضمير عام شامل للمختلفين السابقين واللاحقين - وليس راجعا إلى " الذين أوتوه " كالضمائر السابقة، والقرينة على ذلك عموم الهداية للمؤمنين السابقين على اختلاف أهل الكتاب واللاحقين بعد اختلافهم، وقيل: المراد من * (الذين آمنوا) * أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير في * (اختلفوا) * للذين أوتوه أي الكتاب، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: اختلفوا في يوم الجمعة، فأخذ اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد فهدى الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليوم الجمعة. واختلفوا في القبلة، فاستقبلت النصارى المشرق، واليهود بيت المقدس وهدى الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم للقبلة. واختلفوا في الصلاة، فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يتكلم، ومنهم من يصلي وهو يمشي، فهدى الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك. واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم النهار والليل، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك. واختلفوا في إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقالت اليهود: كان يهوديا، وقالت النصارى: كان نصرانيا، وجعله الله تعالى حنيفا مسلما فهدى الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك. واختلفوا في عيسى عليه الصلاة
(١٠٢)