تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١ - الصفحة ١٠٨
الخ بل هو العدول عن الطريق الموصل إلى البغية فيكون الهدى عبارة عن الدلالة على الطريق الموصل، نعم إن عدم الوصول إلى البغية لازم للضلالة ويجوز أن يكون اللازم أعم، وأما ثالثا: فلأنه لا يلزم من عدم إطلاق المهدي إلا على المهتدي أن يكون الوصول معتبرا في مفهوم الهدى لجواز غلبة المشتق في فرد من مفهوم المشتق منه، وأما رابعا: فلأنا لا نسلم أن اهتدى مطاوع هدى بل هو من قبيل أمره فأتمر من ترتب فعل يغاير الأول فإن معنى هداه فاهتدى دله على الطريق الموصل فسلكه بدليل أنه يقال هداه فلم يهتد على أن جمعا يعتد بهم قالوا: لا يلزم من وجود الفعل وجود مطاوعه مطلقا ففي المختار لا يجب أن يوافق المطاوع أصله ويجب في غيره ويؤيده قوله تعالى: * (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) * (الإسراء: 59) مع قوله سبحانه: * (ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا) * (الإسراء: 60) فقد وجد التخويف بدون الخوف ولا يقال كسرته فما انكسر والفرق بينهما مفصل في " عروس الأفراح "، وأما خامسا: فلأن ما ذكره معارض بما فيه الهداية وليس فيه وصول إلى البغية وقد مر بعضه ولهذا اختلفوا هل هي حقيقة في الدلالة المطلقة مجاز في غيرها أو بالعكس أو هي مشتركة بينهما أو موضوعة لقدر مشترك؟ وإلى كل ذهب طائفة، وقيل والمذكور في كلام الأشاعرة أن المختار عندهم ما ذكر في " الكشاف " وعند المعتزلة ما ذكرناه والمشهور هو العكس - والتوفيق بأن كلام الأشاعرة في المعنى الشرعي والمشهور مبني على المعنى اللغوي أو العرفي - يخدشه اختيار صاحب " الكشاف " مع تصلبه في الاعتزال ما اختاره مع أن الظاهر في القرآن المعنى الشرعي فالأظهر للموفق عكس هذا التوفيق، والحق عند أهل الحق أن الهداية مشتركة بين المعنيين المذكورين وعدم الاهلاك وبه يندفع كثير من القال والقيل والمتقين جمع متق اسم فاعل من وقاه فاتقى ففاؤه واو لا تاء، والوقاية لغة الصيانة مطلقا وشرعا صيانة المرء نفسه عما يضر في الآخرة والمراتب متعددة لتعدد مراتب الضرر فأولاها: التوقي عن الشرك؛ والثانية: التجنب عن الكبائر - ومنها الاصرار على الصغائر - والثالثة: ما أشير إليه بما رواه الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم: " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس " وفي هذه المرتبة يعتبر ترك الصغائر ولذا قيل: خل الذنوب كبيرها * وصغيرها فهو التقى واصنع كماش فوق أر * ض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة * إن الجبال من الحصى وفي هذه المرتبة اختلفت عبارات الأكابر، فقيل: التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك، وقيل: التبري عن الحول والقوة، وقيل: التنزع عن كل ما يشغل السر عن الحق، وفي هذا الميدان تراكضت أرواح العاشقين وتفانت أشباح السالكين حتى قال قائلهم: ولو خطرت لي في سواك إرادة * على خاطري سهوا حكمت بردتي وهداية الكتاب المبين شاملة لأرباب هذه المراتب أجمعين فإن أريد بكونه هدى للمتقين إرشاده إياهم إلى تحصيل المرتبة الأولى: فالمراد بهم المشارفون مجازا لاستحالة تحصيل الحاصل وإيثاره على العبارة المعربة عن ذلك للإيجاز، وتصدير السورة الكريمة بذكر أوليائه تعالى وتفخيم شأنهم واعتبار المشارفة بالنظر إلى زمان نسبة الهدى فلا ينافي حسن التعقيب ب * (الذين يؤمنون) * لأن ذلك كما قيل بالنظر إلى زمان إثبات تلك النسبة كما يقال قتل قتيلا دفن في موضع كذا وربما جعل التقدير هم الذين في جواب من المتقون؟ وحمل الكل على
(١٠٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 ... » »»