تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١ - الصفحة ١١٠
مدحا لهم ليبين سبحانه أنهم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال تعالى: * (إنما أنت منذر من يخشاها) * (النازعات: 45) مع عموم إنذاره صلى الله عليه وسلم وأما غيرهم فلا * (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا) * (الإسراء: 45) و * (لا يزيد الظالمين إلا خسارا) * (الإسراء: 82) وأما القول بأن التقدير - هدى للمتقين والكافرين - فحذف لدلالة المتقين على حد * (سرابيل تقيكم الحر) * (النحل: 81) فمما لا يلتفت إليه هذا ولا يخفى ما في هذه الجمل والآيات من التناسق ف * (آلم) * أشارت إلى ما أشارت و * (ذلك الكتاب) * قررت بعض إشارتها بأنه الكتاب الكامل الذي لا يحق غيره أن يسمى كتابا في جنسه أي باب التحدي والهداية و * (لا ريب فيه) * كالتأكيد لأحد الركنين و * (هدى للمتقين) * كالتأكيد للركن الآخر.
وخلاصته هو الحقيق بأن يتحدى به لكمال نظمه في باب البلاغة وكماله في نفسه وفيما هو المقصود منه، وقيل: بالحمل على الاستئناف كأنه سئل ما باله صار معجزا؟ فأجيب بأنه كامل بلغ أقصى الكمال لفظا ومعنى وهو معنى ذلك الكتاب ثم سئل عن مقتضى الاختصاص بكونه هو الكتاب الكامل فأجيب بأنه لا يحوم حوله ريب ثم لما طولب بالدليل على ذلك استدل بكونه * (هدى للمتقين) * لظهور اشتماله على المنافع الدينية والدنيوية والمصالح المعاشية والمعادية بحيث لا ينكره إلا من كابر نفسه وعاند عقله وحسه، وقد يقال الاعجاز مستلزم غاية الكمال وغاية كمال الكلام البليغ ببعده من الريب والشبه لظهور حقيته وذلك مقتض لهدايته وإرشاده فإن نظر إلى اتحاد المعاني بحسب المال كان الثاني مقررا للأول فلذا ترك العطف وإن نظر إلى أن الأول مقتض لما بعده للزومه بعد التأمل الصادق فالأول لاستلزامه ما يليه وكونه في قوته يجعله منزلا منه منزلة بدل الاشتمال لما بينهما من المناسبة والملازمة فوزانه وزان حسنها في أعجبتني الجارية حسنها وترك العطف حينئذ لشدة الاتصال بين هذه الجمل. وفيها أيضا من النكت الرائقة والمزايا الفائقة ما لا يخفى جلالة قدره - على من مر ما ذكرناه - على فكره.
* (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلواة ومما رزقن‍اهم ينفقون) * صفة للمتقين قبل، فإن أريد بالتقوى أولى مراتبها فمخصصة أو ثانيتها فكاشفة أو ثالثتها فمادحة. وفي " شرح المفتاح الشريفي " إن حمل المتقي على معناه الشرعي - أعني الذي يفعل الواجبات ويترك السيآت - فإن كان المخاطب جاهلا بذلك المعنى كان الوصف كاشفا وإن كان عالما كان مادحا وإن حمل على ما يقرب من معناه اللغوي كان مخصصا، واستظهر كون الموصول مفصولا قصد الإخبار عنه بما بعده لا إثباته لما قبله وإن فهم ضمنا فهو وإن لم يجر عليه كالجاري وهذا كاف في الارتباط، والاستئناف إما نحوي أو بياني كأنه قيل ما بال المتقين خصوا بذلك الهدى، والوقف على المتقين تام على هذا الوجه حسن على الوجه الأول. والإيمان في اللغة التصديق أي إذعان حكم المخبر وقبوله وجعله صادقا وهو إفعال من الأمن كأن حقيقة آمن به آمنه التكذيب والمخالفة ويتعدى باللام كما في قوله تعالى: * (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) * (الشعراء: 111) وبالباء كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " الإيمان أن تؤمن بالله " الحديث، قالوا: والأول باعتبار تضمينه معنى الإذعان والثاني باعتبار تضمينه معنى الاعتراف إشارة إلى أن التصديق لا يعتبر ما لم يقترن به الاعتراف وقد يطلق بمعنى الوثوق من حيث إن الواثق صار ذا أمن وهو فيه حقيقة عرفية أيضا كما في " الأساس " ويفهم مجازيته ظاهر كلام " الكشاف " وأما في الشرع فهو التصديق بما على مجيء النبي صلى الله عليه وسلم به ضرورة تفصيلا فيما علم تفصيلا وإجمالا فيما علم إجمالا وهذا مذهب جمهور المحققين لكنهم اختلفوا في أن مناط الأحكام الأخروية مجرد هذا المعنى أم مع الإقرار؟ فذهب الأشعري وأتباعه إلى أن مجرد هذا المعنى كاف لأنه المقصود والإقرار إنما هو ليعلم وجوده فإنه أمر باطن ويجري عليه الأحكام فمن صدق بقلبه وترك الإقرار مع تمكنه منه كان مؤمنا شرعا فيما بينه وبين الله تعالى ويكون مقره
(١١٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 ... » »»