تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١ - الصفحة ٢١٧
على خلق السموات وعكس في النازعات ولعل ذلك لأن المقام في الأولين مقام الامتنان فمقتضاه تقديم ما هو نعمة نظرا إلى المخاطبين فكأنه قال سبحانه وتعالى: هو الذي دبر أمركم قبل خلق السماء قم خلق السماء، والمقام في الثالثة مقام بيان كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدل على كمالها، هذا والذي يفهم من بعض عبارات القوم قدس الله تعالى أسرارهم أن المحدد - ويقال له سماء أيضا - مخلوق قبل الأرض وما فيها، وأن الأرض نفسها خلقت بعد، ثم بعد خلقها خلقت السموات السبع، ثم بعد السبع خلق ما في الأرض من معادن ونبات، ثم ظهر عالم الحيوان، ثم عالم الإنسان، فمعنى * (خلق لكم ما في الأرض) * حينئذ قدره أو أراد إيجاده أو أوجد مواذه، ومعنى * (وجعل فيها رواسي) * الخ في الآية الأخرى على نحو هذا، وخلق الأرض فيها على ظاهره ولا يأباه قوله سبحانه: * (فقال لها وللأرض ائتيا) * الخ لجواز حمله على معنى ائتيا بما خلقت فيكما من التأثير والتأثر وإبراز ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات المتنوعة، أو إتيان السماء حدوثها وإتيان الأرض أن تصير مدحوة أو ليأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما، وبعد هذا كله لا يخلو البحث من صعوبة، ولا زال الناس يستصعبونه من عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلى الآن، ولنا فيه إن شاء الله تعالى عودة بعد عودة، ونسأل الله تعالى التوفيق.
* (فسويهن سبع سمماوات) * الضمير للسماء إن فسرت بالأجرام، وجاز أن يرجع إليها بناء على أنها جمع أو مؤلة به، وإلا فمبهم يفسره ما بعده على حد - نعم رجلا - وفيه من التفخيم والتشويق والتمكين في النفس ما لا يخفى، وفي نصب * (سبع) * خمسة أوجه: البدل من المبهم، أو العائد إلى السماء، أو مفعول به أي سوى منهن، أو حال مقدرة، أو تمييز، أو مفعول ثان لسوى بناء على أنها بمعنى صير - ولم يثبت - والبدلية أرجع لعدم الاشتقاق وبعدها الحالية - كما في " البحر " - وأريد بسواهن أتمهن وقومهن وخلقهن ابتداء مصونات عن العوج والفطور لا أنه سبحانه وتعالى سواهن بعد أن لم يكن كذلك فهو على حد قولهم: ضيق فم البئر ووسع الدار، وفي مقارنة التسوية والاستواء حسن لا يخفى لا يقال إن أرباب الأرصاد أثبتوا تسعة أفلاك، وهل هي إلا سموات؟ لأنا نقول هم شاكون إلى الآن في النقصان والزيادة فإن ما وجدوه من الحركات يمكن ضبطها بثمانية وسبعة بل بواحد، وبعضهم أثبتوا بين فلك الثوابت والأطلس كرة لضبط الميل الكلي، وقال بعض محققيهم: لم يتبين لي إلى الآن أن كرة الثوابت كرة واحدة أو كرات منطوية بعضها على بعض، وأطال الإمام الرازي الكلام في ذلك وأجاد، على أنه إن صح ما شاع فليس في الآية ما يدل على نفي الزوائد بناء على ما اختاره الإمام من أن مفهوم العدد ليس بحجة، وكلام البيضاوي في " تفسيره " يشير إليه خلافا لما في " منهاجه " الموافق لما عليه الإمام الشافعي ونقله عنه الغزالي في " المنخول "، وذكر الساليكوتي أن الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد - والخلاف في ذلك مشهور - وإذا قلنا بكروية العرش والكرسي لم يبق كلام.
* (وهو بكل شيء عليم) * تذييل مقرر لما قبله من خلق السموات والأرض وما فيها على هذا النمط العجيب والأسلوب الغريب * (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) * (الملك: 3، 4) وفي * (عليم) * من المبالغة ما ليس في عالم وليس ذلك راجعا إلى نفس الصفة لأن علمه تعالى واحد لا تكثر فيه لكن لما تعلق بالكلي والجزئي والموجود والمعدوم والمتناهي وغير المتناهي وصف نفسه سبحانه بما دل على المبالغة - والشيء - هنا عام باق على عمومه لا تخصيص فيه بوجه خلافا لمن ضل عن سواء السبيل، والجار والمجرور متعلق بعليم وإنما تعدى بالباء مع أنه من علم وهو متعد بنفسه، والتقوية تكون باللام لأن أمثلة المبالغة
(٢١٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 212 213 214 215 216 217 218 219 220 221 222 ... » »»