تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١ - الصفحة ٢١٤
ومجاهد رضي الله تعالى عنهم أن المراد بالموت الأول العدم السابق، والاحياء الأول الخلق والموت الثاني المعهود في الدار الدنيا، والحياة الثانية البعث للقيامة، واختاره بعض المحققين وادعى أن قوله تعالى: * (وكنتم أمواتا) * وإسناده آخر الاماتة إليه تعالى مما يقويه، واختار آخرون أن كونهم أمواتا هو من وقت استقرارهم نطفا في الأرحام إلى تمام الأطوار بعدها، وأن الحياة الأولى نفخ الروح بعد تلك الأطوار، والاماتة هي المعهودة والاحياء بعدها هو البعث يوم ينفخ في الصور ولعله أقرب من الأول، وإطلاق الأموات على تلك الأجسام مجاز إن فسر الموت بعدم الحياة عمن اتصف به، وحقيقة إن فسر بعدم الحياة عما من شأنه، قاله الساليكوتي، ويفهم كلام بعضهم: أنه على معنى كالأموات على التفسير الثاني وإن فسر بعدم الحياة مطلقا كان حقيقة وهو المشهور وأبعد الأقوال عندي حمل الموت الأول على المعهود بعد انقضاء الأجل، والإحياء الأول على ما يكون للمسألة في القبر فيكون قد وضع الماضي موضع المستقبل لتحقق الوقوع، ثم لا دليل في الآية على المختار لنفي عذاب القبر إذ نهاية ما فيها عدم ذكر الإحياء المصحح له، ونحن لا نستدل لها بذلك الوجه عليه ولنا والحمد لله تعالى في ذلك المطلب أدلة شتى، وكذا لا دليل للمجسمة القائلين بأنه تعالى في مكان في * (وإليه ترجعون) * لأن المراد بالرجوع إليه الجمع في المحشر حيث لا يتولى الحكم سواه والأمر يومئذ لله، ووراء هذا من المقال مالا يخفى على العارفين، وفي قوله تعالى: * (ترجعون) * على البناء للمفعول دون يرجعكم المناسب للسياق مراعاة لتناسب رؤوس الآي مع وجود التناسب المعنوي للسباق، ولهذا قيل إن قراءة الجمهور أفصح من قراءة يعقوب ومجاهد، وجماعة * (ترجعون) * مبنيا للفاعل، ولا يرد أن الآية إذا كانت خطابا للكفار - ومعنى العلم ملاحظ فيها - امتنع خطابهم بما بعد - ثم وثم - من الفعلين لأنهم لا يعلمون ذلك لأن تمكنهم من العلم لوضوح الأدلة آفاقية وأنفسية - وسطوع أنوارها عقلية ونقلية - منزل منزل العلم في إزاحة العذر، وبهذا يندفع أيضا ما قيل: هم شاكون في نسبة ما تقدم إليه تعالى فكيف يتأتى ذلك الخطاب به، ويحتمل كما قيل: أن يكون الخطاب في الآية للمؤمن والكافر فإنه سبحانه لما بين دلائل التوحيد أيضا من قوله سبحانه: * (يا أيها الناس) * إلى * (فلا تجعلوا) * (البقرة: 21، 22) ودلائل النبوة من * (وإن كنتم) * إلى * (إن كنتم) * (البقرة: 23) وأوعد ب * (فان لم تفعلوا ولن تفعلوا) * (البقرة: 24) الآية، ووعد ب * (وبشر الذين آمنوا) * (البقرة: 25) الخ أكد ذلك بأن عدد عليهم النعم العامة من قوله: * (وكنتم أمواتا) * إلى * (هم فيها خالدون) * (البقرة: 28 - 39) والخاصة من * (يا بني إسرائيل) * إلى * (ما ننسخ) * (البقرة: 40 - 106) واستقبح صدور الكفر مع تلك النعم منهم توبيخا للكافر وتقريرا للمؤمن وعد الإماتة نعمة لأنها وصلة إلى الحياة الأبدية واجتماع المحب بالحبيب، وقد يقال: إن المعدود عليهم كذلك هو المعنى المنتزع من القصة بأسرها.
ومن الاشارة قول ابن عطاء * (وكنتم أمواتا) * بالظاهر * (فأحياكم) * بمكاشفة الأسرار * (ثم يميتكم) * عن أوصاف العبودية * (ثم يحييكم) * بأوصاف الربوبية، وقال فارس: * (وكنتم أمواتا) * بشواهدكم * (فأحياكم) * بشواهده * (ثم يميتكم) * عن شاهدكم * (ثم يحييكم) * بقيام الحق * (ثم إليه ترجعون) * عن جميع ما لكم فتكونون له.
* (هو الذى خلق لكم ما فى الارض جميعا ثم استوى إلى السمآء فسواهن سبع سم‍اوات وهو بكل شىء عليم) *.
* (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) * معطوف على قوله تعالى: * (وكنتم) * وترك الحرف إما لكونه كالنتيجة له أو للتنبيه على الاستقلال في إفادة ما أفاده، وذكر أنه بيان نعمة أخرى مترتبة على الأولى، وأريد بترتبها أن الانتفاع بها يتوقف عليها فإن النعمة إنما تسمى نعمة من حيث الانتفاع بها، و * (هو) * لغير المتكلم والمخاطب،
(٢١٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 209 210 211 212 213 214 215 216 217 218 219 ... » »»