تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١ - الصفحة ١٣٥
بقضاء الله وقدره. وفي الحديث " إن القلب كريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح " وقد قال الشاعر:
قد سمي القلب قلبا من تقلبه * فأحذر على القلب من قلب وتحويل وتسمية الجسم المعروف قلبا إذا أمعنت النظر ليس إلا لتقلب هاتيك اللطيفة المشرقة عليه لأنه العضو الرئيس الذي هو منشأ الحرارة الغريزية الممدة للجسد كله ويكنى بصلاحه وفساده عن صلاح هاتيك اللطيفة وفسادها لما بينهما من التعلق الذي لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى وكأنه هذا قال صلى الله عليه وسلم: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " وكثير من الناس ذهب إلى أن تلك المضغة هي محل العلم، وقيل: إنه في الدماغ وقيل إنه مشترك بينهما وبني ذلك على إثبات الحاوس الباطنة والكلام فيها مشهور. ومن راجع وجد أنه أدرك أن بين الدماغ والقلب رابطة معنوية ومراجة سرية لا ينكرها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، لكن معرفة حقيقة ذلك متعززة كما هي متعذرة والإشارة إلى كنه ما هنلك على أرباب الحقائق وأصحاب الدقائق متعسرة، ومن عرف نفسه فقد عرف ربه، والعجز عن درك الإدراك إدراك. والسمع مصدر - سمع سمعا ومساعا - ويطلق على قوة مودعة في العصب المفروش أو المبطل في الأذن تدرك بها الأصوات ويعبر به تارة عن نفس الأذن وأخرى عن الفعل نحو * (إنهم عن السمع لمعزولون) *، والأبصار - جمع بصر - وهو في الأصل بمعنى إدراك العين وإحساسها ثم تجوز به عن القوة المودعة في ملتقى العصبتين المجوفتين الواصلتين من الدماغ إلى الحدقتين التي من شأنها إدراك الألوان والأشكال بتفصيل معروف في محله وعن العين التي هي محله، وشاع هذا حتى صار حقيقة في العرف لتبادره وهو المناسب للغشاوة لتعلقها بالأعيان ويناسب الختم ما يناسب الغشاوة، وإنما قدم سبحانه الختم على القلوب هنا لأن الآية تقرير لعدم الإيمان فناسب تقديم القلوب لأنها محل الإيمان والسمع - والأبصار طرق وآلات له - وهذا بخلاف قوله تعالى: * (وختم على سمعه وقلبه) * فإنه مسوق لعدم المبالاة بالمواعظ ولذا جاءت الفاصلة * (أفلا تذكرون) * فكان المناسب هناك تقديم السمع، وأعاد جل شأنه الجار لتكون أدلة على شدة الختم في الموضعين فإن ما يوضع في خزانة إذا ختمت خزانته وختمت داره كان أقوى المنع عنه وأظهر في الاستقلال لأن إعادة الجار تقتضي ملاحظة معنى الفعل المعدى به حتى كأنه ذكر مرتين، ولذا قالوا في مررت بزيد وعمرو: مرور واحد، وفي مررت بزيد وبعمرو: مروان، والعطف وإن كان في قوة الإعادة لكنه ليس ظاهرا مثلها في الإفادة لما فيه من الاحتمال. ووحد السمع مع أنه متعدد في الواقع ومقتضى الانتظام بالسباق. واللحاق أن يجري على نمطهما للاختصار والتفنن مع الإشارة إلى نكتة - هي أن مدركاته نوع واحد ومدركاتهما مختلفة - وكثيرا ما يعتبر البلغاء مثل ذلك، وقيل: إن وحدة اللفظ تدل على وحدة مسماه - وهو الحاسة - ووحدتها تدل على قلة مدركاتها في بادىء النظر فهناك دلالة التزام ويكفي مثل ما ذكر في اللزوم عرفا ومنه يتنبه لوجه جمع القلوب كثرة والأبصار قلة وإن كان ذلك هو المعروف في استعمال الفقهاء في جميعها على أن الاسماع قلما قرع السمع - ومنه قراءة ابن أبي عبلة في الشواذ - وعلى أسماعهم، واستشهد له بقوله:
(١٣٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 130 131 132 133 134 135 136 137 138 139 140 ... » »»