وقولهم هو سبحانه الخالق لداعية المعصية مسلم لكنه خلقها وأظهرها طبق ما دعا إليه الإستعداد الذاتي الذي لا دخل للقدرة إلا في إيجاده وأي قبح في إعطاء الشيء ما طلبه بلسان استعداده وإن أضر به ولا يلزم الله تعالى عقلا أن يترك مقتضى حكمته ويبطل شأن ربوبيته مع عدم تعلق علمه بخلاف ما اقتضاه ذلك الإستعداد وقولهم هب أنا سلمنا العقاب فمن أين الدوام الخ قلنا الدوام من خبث الذات وقبح الصفات الثابتين فيما لم يزل الظاهرين فيما لا يزال بالإباء بعد التكليف مع مراعاة الحكمة وهذا الخبث دائم فيهم ما دامت حكمة الله تعالى الذاتية وذواتهم كما يرشدك إلى ذلك قوله سبحانه * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) * ويدوم المعلول ما دامت علته أو يقال العذاب وهو في الحقيقة البعد من الله لازم للكفر والملزوم لا ينفك من اللازم وأيضا الكفر مع ظهور البرهان في الأنفس والآفاق بمن لا تتناهى كبرياؤه ولا تنحصر عظمته أمر لا يحيط نطاق الفكر بقبحه وإن لم يتضرر به سبحانه لكن الغيرة الإلهية لا ترتضيه وإن أفاضته القدرة الأزلية حسب الإستعداد بمقتضى الحكمة ومثل ذلك يطلب عذابا أبديا وعقابا سرمديا وشبيه الشيء منجذب إليه ولا يقاس هذا بما ضربه من المثال إذ أين ذلة التراب من عزة رب الأرباب وليس مورد المسألتين منهلا واحدا وقولهم من تاب من الكفر ولو بعد حين تاب الله تعالى عليه أفترى أن هذا الكرم العظيم يذهب في الآخرة أو تسلب عقول أولئك المعذبين فلا يتوبون الخ ففيه أن من تاب من الكفر فقد أبدل القبيح بضده وأظهر سبحانه مقتضى ذاته وماهيته المعلومة له حسب علمه فهناك حينئذ كفر قبيح زائل وإيمان حسن ثابت وقد انضم إلى هذا الإيمان ندم على ذلك الكفر في دار ينفع فيها تدارك ما فات والندم على الهفوات فيصير الكفر بهذا الإيمان كأن لم يكن شيئا مذكورا إذ يقابل القبيح بالحسن ويبقى الندم وهو ركن التوبة مكسبا على أن ظهور الإيمان بعد الكفر دليل على نجابة الذات في نفسها وطهارتها في معلوميتها والأعمال بالخواتيم فلا بدع في مغفرة الله تعالى له جودا وكرما ورحمة الله تعالى وإن وسعت كل شيء ببعض اعتباراتها إلا أنها خصت المتقين باعتبار آخر كما يشير إليه قوله تعالى * (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون) * فهي كمعيته سبحانه الغير المكيفة ألا تسمع قوله تعالى مرة * (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم) * وتارة * (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) * وكرة * (إن الله معنا) * وطورا * (إن معي ربي) * ولا ينافي كون الرحمة أوسع دائرة من الغضب كما يرمز إليه * (الرحمن على العرش استوى) * أن الكفار المعذبين أكثر من المؤمنين المنعمين كما يقتضيه قوله تعالى * (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) * وكذا حديث البعث لأن هذه الكثرة بالنسبة إلى بني آدم وهم قليلون بالنسبة إلى الملائكة والحور والغلمان * (وما يعلم جنود ربك إلا هو) * * (ويخلق ما لا تعلمون) * فيكون أهل الرحمة أكثر من أهل الغضب على أن أهل النار مرحومون في عذابهم وما عند الله تعالى من كل شيء لا يتناهى وبعض الشر أهون من بعض وهم مختلفون في العذاب وبين عذاب كل طبقة وطبقة ما بين السماء والأرض وإن ظن كل من أهلها أنه أشد الناس عذابا لكن الكلام في الواقع بل منهم من هو ملتذ بعذابه من بعض الجهات ومنهم غير ذلك نعم فيهم من عذابه محض لا لذة لهم فيه ومع هذا يمقتون أنفسهم لعلمهم أنها هي التي استعدت لذلك ففاض عليها ما فاض من جانب المبدأ الفياض كما يشير إليه قوله تعالى * (لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم) * ومن غفل منهم عن ذلك نبهه إبليس عليه اللعنة كما حكى الله عنه بقوله * (فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) * ولا تنفعهم التوبة هناك كما تنفعهم هنا إذ قد اختلفت الداران وامتاز الفريقان وانتهى الأمد المضروب
(١٤٠)