تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٥١٤
وفي الكشاف: دابة تعبث بالسفن ولا تطاق إلا بالنار. فإن كان قريش من مزيد فيه فهو تصغير ترخيم، وإن كان من ثلاثي مجرد فهو تصغير على أصل التصغير.
الشتاء والصيف فصلان معروفان من فصول السنة الأربعة، وهمزة الشتاء مبدلة من واو، قالوا: شتا يشتو، وقالوا: شتوة، والشتاء مفرد وليس بجمع شتوة.
* (لإيلاف قريش * إيلافهم رحلة الشتاء والصيف * فليعبدوا رب هاذا البيت * الذى أطعمهم من جوع وءامنهم من خوف) *.
هذه السورة مكية في قول الجمهور، مدنية في قول الضحاك وابن السائب. ومناسبتها لما قبلها ظاهرة، ولا سيما أن جعلت اللام متعلقة بنفس فجعلهم، وهو قول الأخفش، أو بإضمار فعلنا ذلك لإيلاف قريش، وهو مروي عن الأخفش حتى تطمئن في بلدها. فذكر ذلك للامتنان عليهم، إذ لو سلط عليهم أصحاب الفيل لتشتتوا في البلاد والأقاليم، ولم تجتمع لهم كلمة. قال الزمخشري: وهذا بمنزلة التضمين في الشعر، وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقا لا يصح إلا به، وهما في مصحف أبي سورة واحدة بلا فصل. وعن عمر: أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب، وقرأ في الأوليين: والتين، والمعنى أنه أهلك أهل الحبشة الذين قصدوهم ليتسامع الناس بذلك، فيتهيبوهم زيادة تهيب، ويحترموهم فضل احترام حتى ينتظم لهم الأمن في رحلتهم، انتهى.
قال الحوفي: ورد هذا القول جماعة، وقالوا: لو كان كذا لكان لإيلاف بعض سورة ألم تر؛ وفي إجماع الجميع على الفصل بينهما ما يدل على غير ما قال، يعني الأخفش والكسائي والفراء، تتعلق بأعجبوا مضمرة، أي اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف، وتركهم عبادة رب هذا البيت، ثم أمرهم بالعبادة بعد وأعلمهم أن الله هو الذي أطعمهم وآمنهم لا آسفهم، أي فليعبدوا الذي أطعمهم بدعوة أبيهم حيث قال: * (وارزقهم من الثمرات) *، وآمنهم بدعوته حيث قال: * (رب اجعل هاذا البلد امنا) *، ولا تشتغلوا بالأسفار التي إنما هي طلب كسب وعرض دنيا. وقال الخليل بن أحمد: تتعلق بقوله: * (فليعبدوا) *، والمعنى لأن فعل الله بقريش هذا ومكنهم من إلفهم هذه النعمة. * (فليعبدوا) *: أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلة. قال الزمخشري: فإن قلت: فلم دخلت الفاء؟ قلت: لما في الكلام من معنى الشرط، لأن المعنى: إما لا فليعبدوا لإيلافهم على معنى أن نعم الله عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لهذه النعمة الواحدة التي هي نعمة ظاهرة، انتهى. وقرأ الجمهور: * (لإيلاف قريش) *، مصدر آلف رباعيا؛ وابن عامر: لالاف على وزن فعال، مصدر ألف ثلاثيا. يقال: ألف الرجل الأمر إلفا وإلافا، وآلفه غيره إياه إيلافا، وقد يأتي ألف متعديا لواحد كإلف، قال الشاعر:
* من المؤلفات الرمل أدماء حرة * شعاع الضحى في متنها يتوضح * ولم يختلف القراء السبعة في قراءة إيلافهم مصدرا للرباعي. وروي عن أبي بكر، عن عاصم أنه قرأ بهمزتين، فيهما الثانية ساكنة، وهذا شاذ، وإن كان الأصل أبدلوا الهمزة التي هي فاء الكلمة لثقل اجتماع همزتين، ولم يبدلوا في نحو يؤلف على جهة اللزوم لزوال الاستثقال بحذف الهمزة فيه، وهذا المروي عن عاصم هو من طريق الشمني عن الأعشى عن أبي بكر. وروى محمد بن داود النقار عن عاصم: إإيلافهم بهمزتين مكسورتين بعدهما ياء ساكنة ناشئة عن حركة الهمزة الثانية لما أشبع كسرتها، والصحيح رجوع عاصم عن الهمزة الثانية، وأنه قرأ كالجماعة. وقرأ أبو جعفر فيما حكى الزمخشري: لإلف قريش؛ وقرأ فيما حكى ابن عطية الفهم. قال الشاعر:
(٥١٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 509 510 511 512 513 514 515 516 517 518 519 ... » »»