تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٤٨٤
بنصب يشاور، وهذا محتمل للتخريجين، وهو أحسن مما تقدم. * (ووضعنا عنك وزرك) *: كناية عن عصمته من الذنوب وتطهيره من الأدناس، عبر عن ذلك بالحط على سبيل المبالغة في انتفاء ذلك، كما يقول القائل: رفعت عنك مشقة الزيارة، لمن لم يصدر منه زيارة، على طريق المبالغة في انتفاء الزيارة منه. وقال أهل اللغة: أنقض الحمل ظهر الناقة، إذا سمعت له صريرا من شدة الحمل، وسمعت نقيض المرجل: أي صريره. قال عباس بن مرداس:
* وأنقض ظهري ما تطويت منهم * وكنت عليهم مشفقا متحننا * وقال جميل:
* وحتى تداعت بالنقيض حباله * وهمت بوأي زورة أن نحطها * والنقيض: صوت الانقضاض والانفكاك. * (ورفعنا لك ذكرك) *: هو أن قرنه بذكره تعالى في كلمة الشهادة والأذان والإقامة والتشهد والخطب، وفي غير موضع من القرآن، وفي تسميته نبي الله ورسول الله، وذكره في كتب الأولين، والأخذ على الأنبياء وأممهم أن يؤمنوا به. وقال حسان:
* أغر عليه للنبوة خاتم * من الله مشهور يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد * وتعديد هذه النعم عليه صلى الله عليه وسلم) يقتضي أنه تعالى كما أحسن إليك بهذه المراتب، فإنه يحسن إليك بظفرك على أعدائك وينصرك عليهم. وكان الكفار أيضا يعيرون المؤمنين بالفقر، فذكره هذه النعم وقوى رجاءه بقوله: * (فإن مع العسر يسرا) *: أي مع الضيق فرجا. ثم كرر ذلك مبالغة في حصول اليسر. ولما كان اليسر يعتقب العسر من غير تطاول أزمان، جعل كأنه معه، وفي ذلك تبشيرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم) بحصول اليسر عاجلا. والظاهر أن التكرار للتوكيد، كما قلنا. وقيل: تكرر اليسر باعتبار المحل، فيسر في الدنيا ويسر في الآخرة. وقيل: مع كل عسر يسر، إن من حيث أن العسر معرف بالعهد، واليسر منكر، فالأول غير الثاني. وفي الحديث: (لن يغلب عسر يسرين). وضم سين العسر ويسرا فيهن ابن وثاب وأبو جعفر وعيسى، وسكنهما الجمهور.
ولما عدد تعالى نعمه السابقة عليه صلى الله عليه وسلم)، ووعده بتيسير ما عسره، أمره بأن يدأب في العبادة إذا فرغ من مثلها ولا يفتر. وقال ابن مسعود: * (فإذا فرغت) * من فرضك، * (فانصب) * في التنفل عبادة لربك. وقال أيضا: * (فانصب) * في قيام الليل. وقال مجاهد: قال * (فإذا فرغت) * من شغل دنياك، * (فانصب) * في عبادة ربك. وقال ابن عباس وقتادة: * (فإذا فرغت) * من الصلاة، * (فانصب) * في الدعاء. وقال الحسن: * (فإذا فرغت) * من الجهاد، * (فانصب) * في العبادة. ويعترض قوله هذا بأن الجهاد فرض بالمدينة. وقرأ الجمهور: * (فرغت) * بفتح الراء؛ وأبو السمال: بكسرها، وهي لغة. قال الزمخشري: ليست بفصيحة. وقرأ الجمهور: * (فانصب) * بسكون الباء خفيفة، وقوم: بشدها مفتوحة من الأنصاب. وقرأ آخرون من الإمامية: فانصب بكسر الصاد بمعنى: إذا فرغت من الرسالة فانصب خليفة. قال ابن عطية: وهي قراءة شاذة ضعيفة المعنى لم تثبت عن عالم، انتهى. وقرأ الجمهور: * (فارغب) *، أمر من رغب ثلاثيا: أي اصرف وجه الرغبات إليه لا إلى سواه. وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة: فرغت، أمر من رغب بشد الغين.
(٤٨٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 479 480 481 482 483 484 485 486 487 488 489 ... » »»