تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٤٩٥
واجتمعت كلمتهم إلى أن أتتهم البينة.
وقيل: معنى منفكين: هالكين، من قولهم: انفك صلا المرأة عند الولادة، وأن ينفصل فلا يلتئم، والمعنى: لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، انتهى. ومنفكين اسم فاعل من انفك، وهي التامة وليست الداخلة على المبتدأ والخبر. وقال بعض النحاة: هي الناقصة، ويقدر منفكين: عارفين أمر محمد صلى الله عليه وسلم)، أو نحو هذا، وخبر كان وأخواتها لا يجوز حذفه لا اقتصارا ولا اختصارا، نص على ذلك أصحابنا، ولهم علة في منع ذلك ذكروها في علم النحو، وقالوا في قوله: حين ليس مجير، أي في الدنيا، فحذف الخبر أنه ضرورة، والبينة: الحجة الجليلة.
وقرأ الجمهور: * (رسول) * بالرفع بدلا من * (البينة) *، وأبي وعبد الله: بالنصب حالا من البينة. * (يتلو صحفا) *: أي قراطيس، * (مطهرة) * من الباطل. * (فيها كتب) *: مكتوبات، * (قيمة) *: مستقيمة ناطقة بالحق. * (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب) *: أي من المشركين، وانفصل بعضهم من بعض فقال: كل ما يدل عنده على صحة قوله. * (إلا من بعد ما جاءتهم البينة) *: وكان يقتضي مجيء البينة أن يجتمعوا على اتباعها. وقال الزمخشري: كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم). وقال أيضا: أفرد أهل الكتاب، يعني في قوله: * (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب) * بعد جمعهم والمشركين، قيل: لأنهم كانوا على علم به لوجوده في كتبهم، فإذا وصفوا بالتفرق عنه، كان من لا كتاب له أدخل في هذا الوصف. والمراد بتفرقهم: تفرقهم عن الحق، أو تفرقهم فرقا، فمنهم من آمن، ومنهم من أنكر. وقال: ليس به ومنهم من عرف وعاند. وقال ابن عطية: ذكر تعالى مذمة من لم يؤمن من أهل الكتاب من أنهم لم يتفرقوا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم) إلا من بعد ما رأوا الآيات الواضحة، وكانوا من قبل متفقين على نبوته وصفته، فلما جاء من العرب حسدوه، انتهى.
وقرأ الجمهور: * (مخلصين) * بكسر اللام، والدين منصوب به؛ والحسن: بفتحها، أي يخلصون هم أنفسهم في نياتهم. وانتصب * (الدين) *، إما على المصدر من * (ليعبدوا) *، أي ليدينوا الله بالعبادة الدين، وإما على إسقاط في، أي في الدين، والمعنى: وما أمروا، أي في كتابيهما، بما أمروا به إلا ليعبدوا. * (حنفاء) *: أي مستقيمي الطريقة. وقال محمد بن الأشعب الطالقاني: القيمة هنا: الكتب التي جرى ذكرها، كأنه لما تقدم لفظ قيمة نكرة، كانت الألف واللام في القيمة للعهد، كقوله تعالى: * (كما أرسلنا إلى فرعون رسولا * فعصى فرعون الرسول) *. وقرأ عبد الله: وذلك الدين القيمة، فالهاء في هذه القراءة للمبالغة، أو أنث، على أن عنى بالدين الملة، كقوله: ما هذه الصوت؟ يريد: ما هذه الصيحة: وذكر تعالى مقر الأشقياء وجزاء السعداء، والبرية: جميع الخلق. وقرأ الأعرج وابن عامر ونافع: البرئة بالهمز من برأ، بمعنى خلق. والجمهور: بشد الياء، فاحتمل أن يكون أصله الهمز، ثم سهل بالإبدال وأدغم، واحتمل أن يكون من البراء، وهو التراب. قال ابن عطية: وهذا الاشتقاق يجعل الهمز خطأ، وهو اشتقاق غير مرضي، ويعني اشتقاق البرية بلا همز من البرا، وهو التراب، فلا يجعله خطأ، بل قراءة الهمز مشتقة من برأ، وغير الهمز من البرا؛ والقراءتان قد تختلفان في الاشتقاق نحو: أو ننساها أو ننسها، فهو اشتقاق مرضي. وحكم على الكفار من الفريقين بالخلود في النار وبكونهم شر البرية، وبدأ بأهل الكتاب لأنهم كانوا يطعنون في نبوته، وجنايتهم أعظم لأنهم أنكروه مع العلم به، وشر البرية ظاهره العموم. وقيل: * (شر البرية) *: الذين عاصروا الرسول صلى الله عليه وسلم)، إذ لا يبعد أن يكون في كفار الأمم هو شر من هؤلاء، كفرعون وعاقر ناقة صالح. وقرأ الجمهور: * (خير البرية) * مقابل * (شر البرية) *؛ وحميد وعامر بن عبد الواحد: خيار البرية جمع خير، كجيد وجياد. وبقية السورة واضحة، وتقدم شرح ذلك إفرادا وتركيبا.
(٤٩٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 490 491 492 493 494 495 496 497 498 499 500 ... » »»