تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٤٨١
والتوديع مبالغة في الودع، لأن من ودعك مفارقا فقد بالغ في تركك. * (وما قلى) *: ما أبغضك، واللغة الشهيرة في مضارع قلى يقلى، وطيىء تعلى بفتح العين وحذف المفعول اختصارا في * (قلى) *، وفي * (فاوى) * وفي * (فهدى) *، وفي * (فأغنى) *، إذ يعلم أنه ضمير المخاطب، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم). قال ابن عباس وغيره: أبطأ الوحي مرة على الرسول صلى الله عليه وسلم) وهو بمكة، حتى شق ذلك عليه، فقالت أم جميل، امرأة أبي لهب: يا محمد ما أرى شيطانك إلا تركك؟ فنزلت. وقال زيد بن أسلم: إنما احتبس عنه جبريل عليه السلام لجرو كلب كان في بيته.
* (وللاخرة خير لك من الاولى) *: يريد الدارين، قاله ابن إسحاق وغيره. ويحتمل أن يريد حالتيه قبل نزول السورة وبعدها، وعده تعالى بالنصر والظفر، قاله ابن عطية اهتمالا. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف اتصل قوله: * (وللاخرة خير لك من الاولى) * بما قبله؟ قلت: لما كان في ضمن نفي التوديع والقلى أن الله مواصلك بالوحي إليك، وأنك حبيب الله، ولا ترى كرامة أعظم من ذلك، ولا نعمة أجل منه، أخبره أن حاله في الآخرة أعظم من ذلك وأجل، وهو السبق والتقدم على جميع أنبياء الله ورسله، وشهادة أمته على سائر الأمم، ورفع درجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته. * (ولسوف يعطيك ربك فترضى) *، قال الجمهور: ذلك في الآخرة. وقال ابن عباس: رضاه أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار. وقال أيضا: رضاه أنه وعده بألف قصر في الجنة بما تحتاج إليه من النعم والخدم. وقيل: في الدنيا بفتح مكة وغيره، والأولى أن هذا موعد شامل لما أعطاه في الدنيا من الظفر، ولما ادخر له من الثواب. واللام في * (وللاخرة) * لام ابتداء أكدت مضمون الجملة، وكذا في * (ولسوف) * على إضمار مبتدأ، أي ولأنت سوف يعطيك.
ولما وعده هذا الموعود الجليل، ذكره بنعمه عليه في حال نشأته. * (ألم يجدك) *: يعلمك، * (يتيما) *: توفي أبوه عليه الصلاة والسلام وهو جنين، أتت عليه ستة أشهر وماتت أمه عليه الصلاة والسلام وهو ابن ثماني سنين، فكفله عمه أبو طالب فأحسن تربيته. وقيل لجعفر الصادق: لم يتم النبي صلى الله عليه وسلم) من أبويه؟ فقال: لئلا يكون عليه حق لمخلوق. قال الزمخشري: ومن يدع التفاسير أنه من قولهم درة يتيمة، وأن المعنى: ألم يجدك واحدا في قريش عديم النظير فآواك، انتهى. وقرأ الجمهور: * (فاوى) * رباعيا؛ وأبو الأشهب العقيلي: فأوى ثلاثيا، بمعنى رحم. تقول: أويت لفلان: أي رحمته، ومنه قول الشاعر:
* أراني ولا كفران لله أنه * لنفسي قد طالبت غير منيل * * (ووجدك ضالا) *: لا يمكن حمله على الضلال الذي يقابله الهدى، لأن الأنبياء معصومون من ذلك. قال ابن عباس: هو ضلاله وهو في صغره في شعاب مكة، ثم رده الله إلى جده عبد المطلب. وقيل: ضلاله من حليمة مرضعته. وقيل: ضل في طريق الشام حين خرج به أبو طالب، ولبعض المفسرين أقوال فيها بعض ما لا يجوز نسبته إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ولقد رأيت في النوم أني أفكر في هذه الجملة فأقول على الفور: * (ووجدك) *، أي وجد رهطك، * (ضالا) *، فهداه بك. ثم أقول: على حذف مضاف، نحو: * (واسئل القرية) *. وقرأ الجمهور: * (عائلا) *: أي فقيرا. قال جرير:
* الله نزل في الكتاب فريضة * لابن السبيل وللفقير العائل * كرر لاختلاف اللفظ. وقرأ اليماني: عيلا، كسيد، بتشديد الياء المكسورة، ومنه قول أجيحة بن الحلاج
(٤٨١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 476 477 478 479 480 481 482 483 484 485 486 ... » »»