أنه تعالى أقسم بها لما جمعت من الشرفين، شرفها بإضافتها إلى الله تعالى، وشرفها بحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم) وإقامته فيها، فصارت أهلا لأن يقسم بها.
والظاهر أن قوله: * (ووالد وما ولد) *، لا يراد به معين، بل ينطلق على كل والد. وقال ابن عباس ذلك، قال: هو على العموم يدخل فيه جميع الحيوان. وقال مجاهد: آدم وجميع ولده. وقيل: والصالحين من ذريته. وقيل: نوح وذريته. وقال أبو عمران الحوفي: إبراهيم عليه السلام وجميع ولده. وقيل: ووالد رسول الله صلى الله عليه وسلم) وما ولد إبراهيم عليه السلام. وقال الطبري والماوردي: يحتمل أن يكون الوالد النبي صلى الله عليه وسلم) لتقدم ذكره، وما ولد أمته، لقوله صلى الله عليه وسلم): (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد)، ولقراءة عبد الله: * (وأزواجه أمهاتهم) *، وهو أب لهم، فأقسم تعالى به وبأمته بعد أن أقسم ببلده، مبالغة في شرفه عليه الصلاة والسلام. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما المراد بوالد وما ولد؟ قلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم) ومن ولده. أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه، وحرم أبيه إبراهيم، ومنشأ أبيه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، وبمن ولده وبه. فإن قلت: لم نكر؟ قلت: للإبهام المستقل بالمدح والتعجب. فإن قلت: هلا قيل: ومن ولد؟ قلت: فيه ما في قوله: * (والله أعلم بما وضعت) *: أي بأي شيء وضعت، يعني موضوعا عجيب الشأن. انتهى. وقال الفراء: وصلح ما للناس، كقوله: * (ما طاب لكم) *، * (وما خلق الذكر والانثى) *، وهو الخالق للذكر والأنثى. انتهى. وقال ابن عباس وعكرمة وابن جبير: المراد بالوالد الذي يولد له، وبما ولد العاقر الذي لا يولد له. جعلوا ما نافية، فتحتاج إلى تقدير موصول يصح به هذا المعنى، كأنه قال: ووالد والذي ما ولد، وإضمار الموصول لا يجوز عند البصريين.
* (لقد خلقنا الإنسان فى كبد) *: هذه الجملة المقسم عليها. والجمهور: على أن الإنسان اسم جنس، وفي كبد: يكابد مشاق الدنيا والآخرة، ومشاقه لا تكاد تنحصر من أول قطع سرته إلى أن يستقر قراره، إما في جنة فتزول عنه المشقات؛ وإما في نار فتتضاعف مشقاته وشدائده. وقال ابن عباس وعبد الله بن شداد وأبو صالح والضحاك ومجاهد: * (فى كبد) * معناه: منتصب القامة واقفا، ولم يخلق منكبا على وجهه، وهذا امتنان عليه. وقال ابن كيسان: منتصبا رأسه في بطن أمه، فإذا أذن له بالخروج، قلب رأسه إلى قدمي أمه. وعن ابن عمر: يكابد الشكر على السراء، ويكابد الصبر على الضراء. وقال ابن زيد: * (الإنسان) *: آدم، * (فى كبد) *: في السماء، سماها كبدا، وهذه الأقوال ضعيفة، والأول هو الظاهر. والظاهر أن الضمير في * (أيحسب) * عائد على * (الإنسان) *، أي هو لشدة شكيمته وعزته وقوته يحسب أن لا يقاومه أحد، ولا يقدر عليه أحد لاستعصامه بعدده وعدده. يقول على سبيل الفخر: * (أهلكت مالا لبدا) *: أي في المكارم وما يحصل به الثناء، أيحسب أن أعماله تخفى، وأنه لا يراه أحد، ولا يطلع عليه في إنفاقه ومقصد ما يبتغيه مما ليس لوجه الله منه شيء؟ بل عليه حفظة يكتبون ما يصدر منه من عمل في حياته ويحصونه إلى يوم الجزاء. وقيل: الضمير في * (أيحسب) * لبعض صناديد قريش. وقيل: هو أبو الأسد أسيد بن كلدة، كان يبسط له الأديم العكاظي، فيقوم عليه ويقول: من أزالني عنه فله كذا، فلا ينزع إلا قطعا، ويبقى موضع قدميه. وقيل: الوليد بن المغيرة. وقيل: الحرث بن عامر بن نوفل، وكان إذا أذنب استفتى النبي صلى الله عليه وسلم)، فيأمره بالكفارة، فقال: لقد أهلكت مالا لبدا في الكفارات والتبعات منذ تبعت محمدا صلى الله عليه وسلم). وقرأ الجمهور: لبدا، بضم اللام وفتح الباء؛ وأبو جعفر: بشد الباء؛ وعنه وعن زيد بن علي: لبدا بسكون الباء، ومجاهد وابن أبي الزناد: بضمهما.
ثم عدد تعالى على الإنسان نعمه فقال: * (ألم نجعل له عينين) * يبصر بهما، * (ولسانا) * يفصح عما في باطنه، * (وشفتين) * يطبقهما على فيه ويستعين بهما على الأكل والشرب والنفخ وغير ذلك. * (وهديناه النجدين) *، قال ابن مسعود وابن عباس والجمهور: طريق الخير والشر. وقال ابن عباس أيضا، وعلي وابن المسيب