تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٤٦٧
الدنيا مثله، والأول أوضح لقوله: * (لا يعذب * ولا يوثق) *، ولا يطلق على الماضي إلا بمجاز بعيد، بل موضوع، لا إذا دخلت على المضارع أن يكون مستقبلا. ويجوز أن يكون الضمير قبلها عائدا على الكافر، أي لا يعذب أحد من الزبانية مثل ما يعذبونه. وقيل إلى الله، أي لا يعذب أحد في الدنيا عذاب الله للكافر، ويضعف هذا عمل لا يعذب في يومئذ، وهو ظرف مستقبل. وقرأ ابن سيرين وابن أبي إسحاق وسوار القاضي وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو بحرية وسلام والكسائي ويعقوب وسهل وخارجة عن أبي عمرو: بفتح الذال والثاء مبنيين للمفعول، فيجوز أن يكون الضمير فيهما مضافا للمفعول وهو الأظهر، أي لا يعذب أحد مثل عذابه، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه، أو لا يحمل أحد عذاب الإنسان لقوله تعالى: ولا تزر وازرة وزر أخرى، وعذاب وضع موضع تعذيب. وفي اقتباس مثل هذا خلاف، وهو أن يعمل ما وضع لغير المصدر، كالعطاء والثواب والعذاب والكلام. فالبصريون لا يجيزونه ويقيسونه. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف عنهم: وثاقه بكسر الواو؛ والجمهور: بفتحها، والمعذب هو الكافر على العموم. وقيل: هو أمية بن خلف. وقيل: أبي بن خلف. وقيل: المراد به إبليس؛ وقام الدليل على أنه أشد من الناس عذابا، ويدفع القول هذا قوله: * (يومئذ يتذكر الإنسان) *، والضمائر كلها مسوقة له.
ولما ذكر تعالى شيئا من أحوال من يعذب، ذكر شيئا من أحوال المؤمن فقال: * (ولا تقتلوا النفس) *، وهذا النداء الظاهر إنه على لسان ملك. وقرأ الجمهور: بتاء التأنيث. وقرأ زيد بن علي: يا أيها بغير تاء، ولا أعلم أحدا ذكر أنها تذكر، وإن كان المنادى مؤنثا، إلا صاحب البديع. وهذه القراءة شاهدة بذلك، ولذلك وجه من القياس، وذلك أنه لم يثن ولم يجمع في نداء المثنى والمجموع؛ فكذلك لم يؤنث في نداء المؤنث. * (المطمئنة) *: الآمنة التي لا يلحقها خوف ولا حزن، أو التي كانت مطمئنة إلى الحق لم يخالطها شك. قال ابن زيد: يقال لها ذلك عند الموت وخروجها من جسد المؤمن في الدنيا. وقيل: عند البعث. وقيل: عند دخول الجنة. * (إلى ربك) *: أي إلى موعد ربك. وقيل: الرب هنا الإنسان دون النفس، أي ادخل في الأجساد، والنفس اسم جنس. وقيل: هذا النداء هو الآن للمؤمنين. لما ذكر حال الكفار قال: يا مؤمنون دوموا وجدوا حتى ترجعوا راضين مرضيين، * (راضية) * بما أوتيته، * (مرضية) * عند الله. * (فادخلى فى عبادى) *: أي في جملة عبادي الصالحين. * (وادخلى جنتى) * معهم. وقيل: النفس والروح، والمعنى: فادخلي في أجساد عبادي. وقرأ الجمهور: * (فى عبادى) * جمعا؛ وابن عباس وعكرمة والضحاك ومجاهد وأبو جعفر وأبو صالح والكلبي وأبو شيخ الهنائي واليماني: في عبدي على الإفراد، والأظهر أنه أريد به اسم الجنس، فمدلوله ومدلول الجمع واحد. وقيل: هو على حذف خاطب النفس مفردة فقال: فادخلي في عبدي: أي في جسد عبدي. وتعدى فادخلي أولا بفي، وثانيا بغير فاء، وذلك أنه إذا كان المدخول فيه غير ظرف حقيقي تعددت إليه بفي، دخلت في الأمر ودخلت في غمار الناس، ومنه: * (فادخلى فى عبادى) *. وإذا كان المدخول فيه ظرفا حقيقيا، تعدت إليه في الغالب بغير وساطة في. قيل: في عثمان بن عفان. وقيل: في حمزة. وقيل: في خبيب بن عدي، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
(٤٦٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 462 463 464 465 466 467 468 469 470 471 472 ... » »»