تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٤٧١
والضحاك: الثديين، لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه. * (فلا اقتحم العقبة) *: أي لم يشكر تلك النعم السابقة، والعقبة استعارة لهذا العمل الشاق على النفس من حيث هو بذل مال، تشبيه بعقبة الجبل، وهو ما صعب منه، وكان صعودا، فإنه يلحقه مشقة في سلوكها. واقتحمها: دخلها بسرعة وضغط وشدة، والقحمة: الشدة والسنة الشديدة. ويقال: قحم في الأمر قحوما: رمى نفسه فيه من غير روية. والظاهر أن لا للنفي، وهو قول أبي عبيدة والفراء والزجاج، كأنه قال: وهبنا له الجوارح ودللناه على السبيل، فما فعل خيرا، أي فلم يقتحم. قال الفراء والزجاج: ذكر لا مرة واحدة، والعرب لا تكاد تفرد لا مع الفعل الماضي حتى تعيد، كقوله تعالى: * (فلا صدق ولا صلى) *، وإنما أفردها لدلالة آخر الكلام على معناه، فيجوز أن يكون قوله: * (ثم كان من الذين ءامنوا) *، قائما مقام التكرير، كأنه قال: فلا اقتحم العقبة ولا آمن. وقيل: هو جار مجرى الدعاء، كقوله: لا نجا ولا سلم، دعاء عليه أن لا يفعل خيرا. وقيل: هو تحضيض بألا، ولا نعرف أن لا وحدها تكون للتحضيض، وليس معها الهمزة. وقيل: العقبة: جهنم، لا ينجي منها إلا هذه الأعمال، قاله الحسن. وقال ابن عباس ومجاهد وكعب: جبل في جهنم. وقال الزمخشري، بعد أن تنحل مقالة الفراء والزجاج: هي بمعنى لا متكررة في المعنى، لأن معنى * (فلا اقتحم العقبة) *: فلا فك رقبة ولا أطعم مسكينا. ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك؟ انتهى، ولا يتم له هذا إلا على قراءة من قرأ فك فعلا ماضيا.
وقرأ ابن كثير والنحويان: فك فعلا ماضيا، رقبة نصب، أو أطعم فعلا ماضيا؛ وباقي السبعة: فكر مرفوعا، رقبة مجرورا، وإطعام مصدر منون معطوف على فك. وقرأ علي وأبو رجاء كقراءة ابن كثير، إلا أنهما قرآ: ذا مسغبة بالألف. وقرأ الحسن وأبو رجاء أيضا: أو إطعام في يوم ذا بالألف، ونصب ذا على المفعول، أي إنسانا ذا مسغبة، ويتيما بدل منه أو صفة. وقرأ بعض التابعين: فك رقبة بالإضافة، أو أطعم فعلا ماضيا. ومن قرأ فك بالرفع، فهو تفسير لاقتحام العقبة، والتقدير: وما أدراك ما اقتحام العقبة. ومن قرأ فعلا ماضيا، فلا يحتاج إلى تقدير مضاف، بل يكون التعظيم للعقبة نفسها، ويجيء فك بدلا من اقتحم، قاله ابن عطية. وفك الرقبة: تخليصها من الأسر والرق. * (ذا مقربة) *: ليجتمع صدقة وصلة، وأو هنا للتنويع، ووصف يوم بذي مسغبة على الاتساع. * (ذا متربة) *، قال: هم المطروحون على ظهر الطريق قعودا على التراب، لا بيوت لهم. وقال ابن عباس: هو الذي يخرج من بيته، ثم يقلب وجهه إليه مستيقنا أنه ليس فيه إلا التراب.
* (ثم كان من الذين ءامنوا) *: هذا معطوف على قوله: * (فلا اقتحم) *؛ ودخلت ثم لتراخي الإيمان والفضيلة، لا للتراخي في الزمان، لأنه لا بد أن يسبق تلك الأعمال الحسنة الإيمان، إذ هو شرط في صحة وقوعها من الطائع، أو يكون المعنى: ثم كان في عاقبة أمره من الذين وافوا الموت على الإيمان، إذ الموافاة عليه شرط في الانتفاع بالطاعات، أو يكون التراخي في الذكر كأنه قيل: ثم اذكر أنه كان من الذين آمنوا. * (وتواصوا بالصبر) *: أي أوصى بعضهم بعضا بالصبر على الإيمان والطاعات وعن المعاصي، * (وتواصوا بالمرحمة) *: أي بالتعاطف والتراحم، أو بما يؤدي إلى رحمة الله. والميمنة والمشأمة تقدم القول فيهما في الواقعة. وقرأ أبو عمرو وحمزة وحفص: * (مؤصدة) * بالهمز هنا وفي الهمزة، فيظهر أنه من آصدت قيل: ويجوز أن يكون من أوصدت، وهمز على حد من قرأ بالسؤق مهموزا. وقرأ باقي السبعة بغير همز، فيظهر أنه من أوصدت. وقيل: يجوز أن يكون من آصدت، وسهل الهمزة، وقال الشاعر:
* قوما تعالج قملا أبناءهم * وسلاسلا حلقا وبابا مؤصدا *
(٤٧١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 466 467 468 469 470 471 472 473 474 475 476 ... » »»