تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٢٦٣
(سقط: فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله ذكرا كثيرا لعلكم تفلحون، وإذا رأوا تجارة أو لهو انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين) هذه السورة مدنية. وقيل: مكية، وهو خطأ، لأن أمر اليهود وانفضاض الناس في الجمعة لم يكن إلا بالمدينة. ومناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر تأييد من آمن على أعدائهم، أتبعه بذكر التنزيه لله تعالى وسعة ملكه وتقديسه، وذكر ما أنعم به على أمة محمد صلى الله عليه وسلم) من بعثته إليهم، وتلاوته عليهم كتابه، وتزكيتهم، فصارت أمته غالبة سائر الأمم، قاهرة لها، منتشرة الدعوة، كما انتشرت دعوة الحواريين في زمانهم. وقرأ الجمهور: * (الملك) * بجره وجر ما بعده؛ وأبو وائل ومسلمة بن محارب ورؤبة وأبو الدينار الأعرابي: بالرفع على إضمار هو، وحسنه الفصل الذي فيه طول بين الموصوف والصفة، وكذلك جاء عن يعقوب. وقرأ أبو الدينار وزيد بن علي: القدوس بفتح القاف؛ والجمهور: بالضم. * (هو الذى بعث) * الآية: تقدم الكلام في نظيرها في آل عمران وفي نسبة الأمي.
* (وءاخرين) *: الظاهر أنه معطوف على * (الاميين) *، أي وفي آخرين من الأميين لم يلحقوا بهم بعد، وسيلحقون. وقيل: * (وءاخرين) * منصوب معطوف على الضمير في * (ويعلمهم) *، أسند تعليم الآخرين إليه عليه الصلاة والسلام مجازا لما تناسق التعليم إلى آخر الزمان وتلا بعضه بعضا، فكأنه عليه الصلاة والسلام وجد منه. وقال أبو هريرة وغيره: وآخرين هم فارس، وجاء نصا عنه في صحيح البخاري ومسلم، ولو فهم منه الحصر في فارس لم يجز أن يفسر به الآية، ولكن فهم المفسرون منه أنه تمثيل. فقال مجاهد وابن جبير: الروم والعجم. وقال مجاهد أيضا وعكرمة ومقاتل: التابعين من أبناء العرب لقوله: * (منهم) *، أي في النسب. وقال مجاهد أيضا والضحاك وابن حبان: طوائف من الناس. وقال ابن عمر: أهل اليمن. وعن مجاهد أيضا: أبناء الأعاجم؛ وعن ابن زيد أيضا: هم التابعون؛ وعن الضحاك أيضا: العجم؛ وعن أبي روق: الصغار بعد الكبار، وينبغي أن تحمل هذه الأقوال على التمثيل، كما حملوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم) في فارس: * (وهو العزيز الحكيم) * في تمكينه رجلا أميا من ذلك الأمر العظيم، وتأييده واختياره من سائر البشر.
* (ذالك فضل الله) *: أي إيتاء النبوة وجعله خير خلقه واسطة بينه وبين خلقه. * (مثل الذين حملوا التوراة) *: هم اليهود المعاصرون للرسول صلى الله عليه وسلم)، كلفوا القيام بأوامرها ونواهيها، ولم يطيقوا القيام بها حين كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم)، وهي ناطقة بنبوته. وقرأ الجمهور: حملوا مشددا مبنيا للمفعول؛ ويحيى بن يعمرو وزيد بن علي: مخففا مبنيا للفاعل. شبه صفتهم بصفة الحمار الذي يحمل كتبا، فهو لا يدري ما عليه، أكتب هي أم صخر وغير ذلك؟ وإنما يدرك من ذلك ما يلحقه من التعب بحملها. وقال الشاعر في نحو ذلك:
* زوامل للأشعار لا علم عندهم * بجيدها إلا كعلم الأباعر * * لعمرك ما يدري البعير إذا غدا * بأوساقه أو راح ما في الغرائر * وقرأ عبد الله: حمار منكرا؛ والمأمون بن هارون: يحمل بشد الميم مبنيا للمفعول. والجمهور: الحمار معرفا، ويحمل مخففا مبنيا للفاعل، ويحمل في موضع نصب على الحال. قال الزمخشري: أو الجر على الوصف، لأن الحمار كاللئيم في قوله:
ولقد أمر على اللئيم يسبني انتهى.
وهذا الذي قاله قد ذهب إليه بعض النحويين، وهو أن مثل هذا من المعارف يوصف بالجمل، وحملوا عليه * (وءاية لهم اليل نسلخ منه النهار) *، وهذا وأمثاله عند المحققين في موضع الحال، لا في موضع الصفة. ووصفه
(٢٦٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 258 259 260 261 262 263 264 265 266 267 268 ... » »»