تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٢٥٢
كفرهم على كل حال، سواء أظفروا بهم أم لم يظفروا، وإنما هو معطوف على جملة الشرط والجزاء، أخبر تعالى بخبرين: أحدهما اتضاح عداوتهم والبسط إليهم ما ذكر على تقدير الظفر بهم، والآخر ودادتهم كفرهم، لا على تقدير الظفر بهم.
ولما كان حاطب قد اعتذر بأن له بمكة قرابة، فكتب إلى أهلها بما كتب ليرعوه في قرابته، قال تعالى: * (لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم) *: أي قراباتكم الذين توالون الكفار من أجلهم، وتتقربون إليهم محاماة عليهم. ويوم معمول لينفعكم أو ليفصل. وقرأ الجمهور؛ * (يفصل) * بالياء مخففا مبنيا للمفعول. وقرأ الأعرج وعيسى وابن عامر: كذلك إلا أنه مشدد، والمرفوع، إما * (بينكم) *، وهو مبني على الفتح لإضافته إلى مبني، وإما ضمير المصدر المفهوم من يفصل، أي يفصل هو، أي الفصل. وقرأ عاصم والحسن والأعمش: يفصل بالياء مخففا مبنيا للفاعل؛ وحمزة والكسائي وابن وثاب: مبنيا للفاعل بالياء مضمومة مشددا؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة: كذلك إلا أنه بالنون مشددا؛ وهما أيضا وزيد بن علي: بالنون مفتوحة مخففا مبنيا للفاعل؛ وأبو حيوة أيضا: بالنون مضمومة، فهذا ثماني قراآت.
ولما نهى عن موالاة الكفار، ذكر قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأن من سيرته التبرؤ من الكفار ليقتدوا به في ذلك ويتأسوا. وقرأ الجمهور: إسوة بكسر الهمزة، وعاصم بضمها، وهما لغتان. * (والذين معه) *، قيل: من آمن به. وقال الطبري وغيره: الأنبياء معاصروه، أو كانوا قريبا من عصره، لأنه لم يرو أنه كان له أتباع مؤمنون في مكافحته لهم ولنمروذ. ألا تراه قال لسارة حين رحل إلى الشام مهاجرا من بلد نمروذ: ما على الأرض من يعبد الله غيري وغيرك؟ والتأسي بإبراهيم عليه السلام هو في التبرؤ من الشرك، وهو في كل ملة وبرسولنا عليه الصلاة والسلام على الإطلاق في العقائد وأحكام الشرع. وقرأ الجمهور؛ * (براء) * جمع بريء، كظريف وظرفاء؛ وعيسى: براء جمع بريء أيضا، كظريف وظراف؛ وأبو جعفر: بضم الباء، كتؤام وظؤار، وهم اسم جمع الواحد بريء وتوأم وظئر، ورويت عن عيسى. قال أبو حاتم: زعموا أن عيسى الهمداني رووا عنه براء على فعال، كالذي في قوله تعالى: * (إننى براء مما تعبدون) * في الزخرف، وهو مصدر على فعال يوصف به المفرد والجمع. وقال الزمخشري: وبراء على إبدال الضم من الكسر، كرخال ورباب. انتهى. فالضمة في ذلك ليست بدلا من كسرة، بل هي ضمة أصلية، وهو قريب من أوزان أسماء الجموع، وليس جمع تكسير، فتكون الضمة بدلا من الكسرة، إلا قول إبراهيم استثناء من قوله: * (أسوة حسنة) *، قاله قتادة والزمخشري. قال مجاهد وقتادة وعطاء الخراساني وغيرهم: المعنى أن الأسوة لكم في هذا الوجه لا في الوجه الآخر، لأنه كان لعلمه ليست في نازلتكم.
وقال الزمخشري: فإن قلت: فإن كان قوله: * (لاستغفرن لك) * مستثنى من القول الذي هو * (أسوة حسنة) *، فما بال قوله: * (فما * أملك لك من الله من شىء) *، وهو غير حقيق بالاستثناء؟ ألا ترى إلى قوله: * (فمن يملك لكم من الله شيئا) *؟ قلت: أراد استثناء جملة قوله لأبيه، والقصد إلى موعد الاستغفار له وما بعده مبني عليه وتابع له، كأنه قال: أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار. انتهى. وقال الزمخشري: أولا بعد أن ذكر أن الاستثناء هو من قوله: * (أسوة حسنة) * في مقالات قال: لأنه أراد بالأسوة الحسنة، فهو الذي حق عليهم أن يأتسوا به ويتخذوه سنة يستنون بها. انتهى. والذين يظهر أنه مستثنى من مضاف لإبراهيم تقديره: أسوة حسنة في مقالات إبراهيم ومحاوراته لقومه إلا قول إبراهيم لأبيه * (لاستغفرن لك) *، فليس فيه أسوة حسنة، فيكون على هذا استثناء متصلا. وأما أن يكون قول إبراهيم مندرجا في أسوة حسنة، لأن معنى الأسوة هو الاقتداء والتأسي، فالقول ليس مندرجا تحته، لكنه مندرج تحت مقالات إبراهيم عليه السلام. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون الاستثناء من التبري والقطيعة التي ذكرت، لم تبق جملة إلا كذا. انتهى. وقيل: هو استثناء منقطع المعنى، لكن قول إبراهيم لأبيه * (لاستغفرن لك) *، فلا تأسوا به فيه فتستغفروا وتفذوا آباءكم الكفار بالاستغفار. * (ربنا عليك توكلنا) * وما بعده، الظاهر أنه من تمام قول إبراهيم متصلا بما قبل الاستثناء، وهو من جملة ما يتأسى به فيه، وفصل بينهما بالاستثناء اعتناء بالاستثناء ولقربه من المستثنى منه، ويجوز أن يكون أمرا من الله للمؤمنين، أي قولوا ربنا عليك توكلنا، علمهم بذلك قطع العلائق التي
(٢٥٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 247 248 249 250 251 252 253 254 255 256 257 ... » »»