تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٢٦٥
الإسراع في المشي، كالسعي بين الصفا والمروة؛ وإنما هو بمعنى قوله تعالى: * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) *، فالقيام والوضوء ولبس الثوب والمشي كله سعي. والظاهر أن الخطاب بالأمر بالسعي للمؤمنين عموما، وأنهما فرض على الأعيان. وعن بعض الشافعية، أنها فرض كفاية، وعن مالك رواية شاذة: أنها سنة. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (الرواح إلى الجمعة واجب على كل مسلم). وقالوا: المأمور بالسعي المؤمن الصحيح الحر الذكر المقيم. فلو حضر غيره أجزأتهم. انتهى.
والمسافة التي يسعى منها إلى صلاة الجمعة لم تتعرض الآية لها، واختلف الفقهاء في ذلك. فقال ابن عمرو وأبو هريرة وأنس والزهري: ستة أميال. وقيل: خمسة. وقال ربيعة: أربعة أميال. وروي ذلك عن الزهري وابن المنكدر. وقال مالك والليث: ثلاثة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: على من في المصر، سمع النداء أو لم يسمع، لا على من هو خارج المصر، وإن سمع النداء. وعن ابن عمر وابن المسيب والزهري وأحمد وإسحاق: على من سمع النداء. وعن ربيعة: على من إذا سمع النداء وخرج من بيته ماشيا أدرك الصلاة. وقرأ كبراء من الصحابة والتابعين: فامضوا بدل * (فاسعوا) *، وينبغي أن يحمل على التفسير من حيث أنه لا يراد بالسعي هنا الإسراع في المشي، ففسروه بالمضي، ولا يكون قرآنا لمخالفته سواد ما أجمع عليه المسلمون.
وذكر الله هنا الخطبة، قاله ابن المسيب، وهي شرط في انعقاد الجمعة عند الجمهور. وقال الحسن: هي مستحبة، والظاهر أنه يجزئ من ذكر الله تعالى ما يسمى ذكرا. قال أبو حنيفة: لو قال الحمد لله أو سبحان الله واقتصر عليه جاز، وقال غيره: لا بد من كلام يسمى خطبة، وهو قول الشافعي وأبي سفيان ومحمد بن الحسن، والظاهر تحريم البيع، وأنه لا يصح. وقال ابن العربي: يفسخ، وهو الصحيح. وقال الشافعي: ينعقد ولا يفسخ، وكلما يشغل من العقود كلها فهو حرام شرعا، مفسوخ ورعا. انتهى. وإنما ذكر البيع من بين سائر المحرمات، لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق، إذ يكثر الوافدون الأمصار من القرى ويجتمعون للتجارة إذا تعالى النهار، فأمروا بالبدار إلى تجارة الآخرة، ونهوا عن تجارة الدنيا، ووقت التحريم من الزوال إلى الفراغ من الصلاة، قاله الضحاك والحسن وعطاء. وقال ناس غيرهم: من وقت أذان الخطبة إلى الفراغ، والإشارة بذلكم إلى السعي وترك البيع، والأمر بالانتشار والابتغاء أمر إباحة، وفضل الله هو ما يلبسه في حالة حسنة، كعيادة المريض، وصلة صديق، واتباع جنازة، وأخذ في بيع وشراء، وتصرفات دينية ودنيوية؛ فأمر مع ذلك بإكثار ذكر الله. وقال مكحول والحسن وابن المسيب: الفضل: المأمور بابتغائه هو العلم. وقال جعفر الصادق: ينبغي أن يكون فجر صبح يوم السبت، ويعني أن يكون بقية يوم الجمعة في عبادة.
وروي أنه كان أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر، فقدم دحية بعير تحمل ميرة. قال مجاهد: وكان من عرفهم أن يدخل بالطبل والمعازف من درابها، فدخلت بها، فانفضوا إلى رؤية ذلك وسماعه، وتركوه صلى الله عليه وسلم) قائما على المنبر في اثني عشر رجلا. قال جابر: أنا أحدهم. قال أبو بكر غالب بن عطية: هم العشرة المشهود لهم بالجنة، والحادي عشر قيل: عمار. وقيل: ابن مسعود. وقيل: ثمانية، قالوا: فنزلت: * (وإذا رأوا تجارة) *. وقرأ الجمهور: * (إليها) * بضمير التجارة؛ وابن أبي عبلة: إليه بضمير اللهو، وكلاهما جائز، نص عليه الأخفش عن العرب. وقال ابن عطية: وقال إليها ولم يقل إليهما تهمما بالأهم، إذ كانت سبب اللهو، ولم يكن اللهو سببها. وتأمل أن قدمت التجارة على اللهو في الرؤية لأنها أهم، وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولا على الأبين. انتهى. وفي قوله: * (قائما) * دلالة على مشروعية القيام في الخطبة. وأول من استراح في الخطبة عثمان، وأول من خطب جالسا معاوية. وقرئ: إليهما بالتثنية للضمير، كقوله تعالى: * (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) *، وتخريجه على أن يتجوز بأو، فتكون بمعنى الواو، وقد تقدم غير هذا التخريج في قوله: * (فالله أولى بهما) * في موضعه في سورة النساء. وناسب ختمها بقوله: * (والله خير الرزقين) *، لأنهم كانوا قد مسهم شيء من غلاء الأسعار، كما تقدم في سبب النزول، وقد ملأ المفسرون كثيرا من أوراقهم بأحكام وخلاف في مسائل الجمعة مما لا تعلق لها بلفظ القرآن.
(٢٦٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 260 261 262 263 264 265 266 267 268 269 270 ... » »»