تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٢٥٨
الحرقوص: دويبة تولع بالنساء الأبكار، وقيل: هو من الترصيص، وهو انصمام الأسنان.
* (سبح لله ما فى * السماوات وما في الارض * وهو العزيز الحكيم * وهو العزيز الحكيم * يأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون * إن الله يحب الذين يقاتلون فى سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص * وإذ قال موسى لقومه ياقوم لم تؤذوننى وقد تعلمون أنى رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدى القوم الفاسقين * وإذ قال عيسى ابن مريم يابنى إسراءيل إنى رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدى من التوراة ومبشرا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد فلما) *.
هذه السورة مدنية في قول الجمهور، ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة. وقال ابن يسار: مكية، وروى ذلك أيضا عن ابن عباس ومجاهد. وسبب نزولها قول المنافقين للمؤمنين: نحن منكم ومعكم، ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك؛ أو قول شباب من المسلمين: فعلنا في الغزو كذا ولم يفعلوا؛ أو قول ناس: وددنا أن نعرف أحب الأعمال إلى ربنا حتى نعنى فيه، ففرض الجهاد؛ وأعلم تعالى بحب المجاهدين، فكرهه قوم وفر بعضهم يوم أحد، فنزلت، أقوال. الأول: لابن زيد، والثاني: لقتادة، والثالث: لابن عباس وأبي صالح.
ومناسبتها لآخر السورة قبلها، أن في آخر تلك: * (رحيم يأيها الذين ءامنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم) *، فاقتضى ذلك إثبات العداوة بينهم، فحض تعالى على الثبات إذا لقي المؤمنون في الحرب أعداءهم. والنداء ب * (ذلك بأن الذين كفروا) *، إن كان للمؤمنين حقيقة، فالاستفهام يراد به التلطف في العتب، وإن كان للمنافقين، فالمعنى * (ذلك بأن الذين كفروا) *: أي بألسنتهم، والاستفهام يراد به الإنكار والتوبيخ وتهكم بهم في إسناد الإيمان إليهم، ولم يتعلق بالفعل وحده. ووقف عليه بالهاء أو بسكون الميم، ومن سكن في الوقف فلإجرائه مجرى الوقف، والظاهر انتصاب * (مقتا) * على التمييز، وفاعل * (كبر) *: أن * (تقولوا) *، وهو من التمييز المنقول من الفاعل، والتقدير: كبر مقت قولكم ما لا تفعلون. ويجوز أن يكون من باب نعم وبئس، فيكون في كبر ضمير مبهم مفسر بالتمييز، وأن تقولوا هو المخصوص بالذم، أي بئس مقتا قولكم كذا، والخلاف الجاري في المرفوع في: بئس رجلا زيد، جار في * (أن تقولوا) * هنا، ويجوز أن يكون في كبر ضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله: * (لم تقولون) *، أي كبر هو، أي القول مقتا، ومثله كبرت كلمة، أي ما أكبرها كلمة، وأن تقولوا بدل من المضمر، أو خبر ابتداء مضمر. وقيل: هو من أبنية التعجب، أي ما أكبره مقتا. وقال الزمخشري: قصد في كبر التعجب من غير لفظه كقوله:
غلت ناب كليب بواؤها ومعنى التعجب: تعظيم الأمر في قلوب السامعين، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظرائه وأشكاله، وأسند إلى * (أن تقولوا) * ونصب * (مقتا) * على تفسيره، دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه لفرط تمكن المقت منه، واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض، ولم يقتصر على أن جعل البغض كثيرا حتى جعل أشده وأفحشه، وعند الله أبلغ
(٢٥٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 253 254 255 256 257 258 259 260 261 262 263 ... » »»