تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٢٦٤
بالمعرفة ذي اللام دليل على تعريفه مع ما في ذلك المذهب من هدم ما ذكره المتقدمون من أن المعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة، والجمل نكرات. * (بئس مثل القوم) *. قال الزمخشري: بئس مثلا مثل القوم. انتهى. فخرجه على أن يكون التمييز محذوفا، وفي بئس ضمير يفسره مثلا الذي ادعى حذفه. وقد نص سيبويه على أن التمييز الذي يفسره الضمير المستكن في نعم وبئس وما أجري مجراهما لا يجوز حذفه. وقال ابن عطية: والتقدير بئس المثل مثل القوم. انتهى. وهذا ليس بشيء، لأن فيه حذف الفاعل، وهو لا يجوز. والظاهر أن * (مثل القوم) * فاعل * (بئس) *، والذين كفروا هو المخصوص بالذم على حذف مضاف، أي مثل الذين كذبوا بآيات الله، وهم اليهود، أو يكون * (الذين كذبوا) * صفة للقوم، والمخصوص بالدم محذوف، التقدير: بئس مثل القوم المكذبين مثلهم، أي مثل هؤلاء الذين حملوا التوراة.
روي أنه لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم)، كتبت يهود المدينة ليهود خيبر: إن اتبعتموه أطعناكم، وإن خالفتموه خالفناه، فقالوا لهم: نحن أبناء خليل الرحمن، ومنا عزير بن الله والأنبياء، ومتى كانت النبوة في العرب نحن أحق بها من محمد، ولا سبيل إلى اتباعه، فنزلت: * (قل ياأهل * أيها * الذين هادوا) *، وكانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه، وإن كان قولكم حقا فتمنوا أن تنقلوا سريعا إلى دار كرامته المعدة لأوليائه، وتقدم تفسير نظير بقية الآية في سورة البقرة. وقرأ الجمهور: * (فتمنوا الموت) *، بضم الواو؛ وابن يعمر وابن أبي إسحاق وابن السميفع: بكسرها؛ وعن ابن السميفع أيضا: فتحها. وحكى الكسائي عن بعض الأعراب أنه قرأ بالهمز مضمومة بدل الواو، وهذا كقراءة من قرأ: تلؤون بالهمز بدل الواو. قال الزمخشري: ولا فرق بين لا ولن في أن كل واحد منهما نفي للمستقبل، إلا أن في لن تأكيدا وتشديدا ليس في لا، فأتى مرة بلفظ التأكيد: * (ولن يتمنوه) *، ومرة بغير لفظه: * (ولا يتمنونه) *، وهذا منه رجوع عن مذهبه في أن لن تقتضي النفي على التأبيد إلى مذهب الجماعة في أنها لا تقتضيه، وأما قوله: إلا أن في لن تأكيدا وتشديدا ليس في لا، فيحتاج ذلك إلى نقل عن مستقري اللسان.
وقرأ الجمهور: * (فإنه) *، والفاء دخلت في خبر إن إذا جرى مجرى صفته، فكان إن باشرت الذي، وفي الذي معنى الشرط، فدخلت الفاء في الخبر، وقد منع هذا قوم، منهم الفراء، وجعلوا الفاء زائدة. وقرأ زيد بن علي: إنه بغير فاء، وخرجه الزمخشري على الاستئناف، وخبر إن هو الذي، كأنه قال: قل إن الموت هو الذي تفرون منه. انتهى. ويحتمل أن يكون خبر أن هو قوله: أنه ملاقيكم، فالجملة خبر إن، ويحتمل أن يكون إنه توكيدا، لأن الموت وملاقيكم خبر إن. لما طال الكلام، أكد الحرف مصحوبا بضمير الاسم الذي لأن.
* (إذا نودى) *: أي إذا أذن، وكان الأذان عند قعود الإمام على المنبر. وكذا كان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم)، كان إذا صعد على المنبر أذن على باب المسجد، فإذا نزل بعد الخطبة أقيمت الصلاة. وكذا كان في عهد أبي بكر وعمر إلى زمان عثمان، كثر الناس وتباعدت المنازل، فزاد مؤذنا آخر على داره التي تسمى الزوراء، فإذا جلس على المنبر أذن الثاني، فإذا نزل من المنبر أقيمت الصلاة، ولم يعب ذلك أحد على عثمان رضي الله عنه. فإن قلت: من في قوله: * (من يوم الجمعة) * ما هي؟ قلت: هي بيان لإذا وتفسير له. انتهى. وقرأ الجمهور: الجمعة بضم الميم؛ وابن الزبير وأبو حيوة وابن أبي عبلة، ورواية عن أبي عمرو وزيد بن علي والأعمش: بسكونها، وهي لغة تميم، ولغة بفتحها لم يقرأ بها، وكان هذا اليوم يسمى عروبة، ويقال: العروبة. قيل: أول من سماه الجمعة كعب بن لؤي، وأول جمعة صليت جمعة سعد بن أبي زرارة، صلى بهم ركعتين وذكرهم، فسموهم يوم الجمعة لاجتماعهم فيه، فأنزل الله آية الجمعة، فهي أول جمعة جمعت في الإسلام.
وأما أول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فإنه لما قدم المدينة، نزل بقباء على بني عمرو بن عوف، وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة عامدا المدينة، فأدرك صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف، في بطن واد لهم، فخطب وصلى الجمعة. والظاهر وجوب السعي لقوله تعالى: * (فاسعوا إلى ذكر الله) *، وأنه يكون في المشي خفة وبدار. وقال الحسن وقتادة ومالك وغيرهم: إنما تؤتى الصلاة بالسكينة، والسعي هو بالنية والإرادة والعمل، وليس
(٢٦٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 259 260 261 262 263 264 265 266 267 268 269 ... » »»