تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ١٨٢
تنازع أهل السنة والقدرية الاستدلال بهذه الآية. فأهل السنة يقولون: كل شيء فهو مخلوق لله تعالى بقدرة دليله قراءة النصب، لأنه لا يفسر في مثل هذا التركيب إلا ما يصح أن يكون خبرا لو وقع الأول على الابتداء. وقالت القدرية: القراءة برفع كل، وخلقناه في موضع الصفة لكل، أي إن أمرنا أو شأننا كل شيء خلقناه فهو بقدر أو بمقدار، على حد ما في هيئته وزمنه وغير ذلك. وقال الزمخشري: * (كل شىء) * منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر. وقرئ: كل شيء بالرفع، والقدر والقدر هو التقدير. وقرئ: بهما، أي خلقنا كل شيء مقدرا محكما مرتبا على حسب ما اقتضته الحكمة، أو مقدرا مكتوبا في اللوح، معلوما قبل كونه قد علمنا حاله وزمانه. انتهى. قيل: والقدر فيه وجوه: أحدها: أن يكون بمعنى المقدار في ذاته وصفاته. والثاني: التقدير، قال تعالى: * (فقدرنا فنعم القادرون) *. وقال الشاعر:
وما قدر الرحمن ما هو قادر أي ما هو مقدور. والثالث: القدر الذي يقال مع القضاء، يقال: كان ذلك بقضاء الله وقدره، والمعنى: أن القضاء ما في العلم، والقدر ما في الإرادة، فالمعنى في الآية: * (خلقناه بقدر) *: أي بقدرة مع إرادة. انتهى. * (وما أمرنا إلا واحدة) *: أي إلا كلمة واحدة وهي: كن كلمح بالبصر، تشبيه بأعجل ما يحس، وفي أشياء أمر الله تعالى أوحي من ذلك، والمعنى: أنه إذا أراد تكوين شيء لم يتأخر عن إرادته. * (ولقد أهلكنا أشياعكم) *: أي الفرق المتشايعة في مذهب ودين. * (وكل شىء فعلوه) *: أي فعلته الأمم المكذبة، محفوظ عليهم إلى يوم القيامة، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة وابن زيد. ومعنى * (فى الزبر) *: في دواوين الحفظة. * (وكل صغير وكبير) * من الأعمال، ومن كل ما هو كائن، * (مستطر) *: أي مسطور في اللوح. يقال: سطرت واستطرت بمعنى. وقرأ الأعمش وعمران بن حدير وعصمة عن أبي بكر: بشد راء مستطر. قال صاحب اللوامح: يجوز أن يكون من طر النبات، والشارب إذا ظهر وثبت بمعنى: كل شيء ظاهر في اللوح مثبت فيه. ويجوز أن يكون من الاستطار، لكن شدد الراء للوقف على لغة من يقول: جعفر ونفعل بالتشديد وقفا. انتهى، ووزنه على التوجيه الأول استفعل، وعلى الثاني افتعل. وقرأ الجمهور: ونهر على الإفراد، والهاء مفتوحة؛ والأعرج ومجاهد وحميد وأبو السمال والفياض بن غزوان: بسكونها، والمراد به الجنس، إن أريد به الأنهار، أو يكون معنى ونهر: وسعة في الأرزاق والمنازل، ومنه قول قيس بن الحطيم:
* ملكت بها كفي فأنهرت فتقها * يرى قائم من دونها ما وراءها أي: أوسعت فتقها. وقرأ زهير العرقبي والأعمش وأبو نهيك وأبو مجلز واليماني: بضم النون والهاء، جمع نهر، كرهن ورهن، أو نهر كأسد وأسد، وهو مناسب لجمع جنات. وقيل: نهر جمع نهار، ولا ليل في الجنة، وهو بعيد. * (فى مقعد صدق) *: يجوز أن يكون ضد الكذب، أي في المقعد الذي صدقوا في الخبر به، وأن يكون من قولك: رجل صدق: أي خير وجود وصلاح. وقرأ الجمهور: في مقعد، على الإفراد، يراد به اسم الجنس؛ وعثمان البتي: في مقاعد على الجمع؛ وعند تدل على قرب المكانة من الله تعالى، والله تعالى أعلم.
(١٨٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 177 178 179 180 181 182 183 184 185 186 187 ... » »»