ولم يذكر المعلم، ذكره بعد في قوله: * (خلق الإنسان) *، ليعلم أنه المقصود بالتعليم. ولما كان خلقه من أجل الدين وتعليمه القرآن، كان كالسبب في خلقه تقدم على خلقه. ثم ذكر تعالى الوصف الذي يتميز به الإنسان من المنطق المفصح عن الضمير، والذي به يمكن قبول التعليم، وهو البيان. ألا ترى أن الأخرس لا يمكن أن يتعلم شيئا مما يدرك بالنطق؟ وعلم متعدية إلى اثنين، حذف أولهما لدلالة المعنى عليه، وهو جبريل، أو محمد عليهما الصلاة والسلام، أو الإنسان، أقوال. وتوهم أبو عبد الله الرازي أن المحذوف هو المفعول الثاني، قال: فإن قيل: لم ترك المفعول الثاني؟ وأجاب بأن النعمة في التعليم، لا في تعليم شخص دون شخص، كما يقال: فلان يطعم الطعام، إشارة إلى كرمه، ولا يبين من يطعمه. انتهى. والمفعول الأول هو الذي كان فاعلا قبل النقل بالتضعيف أو الهمزة في علم وأطعم.
وأبعد من ذهب إلى أن معنى * (علم القرءان) *: جعله علامة وآية يعتبر بها، وهذه جمل مترادفة، أخبار كلها عن الرحمن، جعلت مستقلة لم تعطف، إذ هي تعداد لنعمه تعالى. كما تقول: زيد أحسن إليك، خولك: أشار بذكرك، والإنسان اسم جنس. وقال قتادة الإنسان: آدم عليه السلام. وقال ابن كيسان: محمد صلى الله عليه وسلم). وقال ابن زيد والجمهور: * (البيان) *: المنطق، والفهم: الإبانة، وهو الذي فضل به الإنسان على سائر الحيوان. وقال قتادة: هو بيان الحلال والشرائع، وهذا جزء من البيان العام. وقال محمد بن كعب: ما يقول وما يقال له. وقال الضحاك: الخير والشر. وقال ابن جريج: الهدى. وقال يمان: الكتابة. ومن قال: الإنسان آدم، فالبيان أسماء كل شيء، أو التكلم بلغات كثيرة أفضلها العربية، أو الكلام بعد أن خلقه، أو علم الدنيا والآخرة، أو الاسم الأعظم الذي علم به كل شيء، أقوال، آخرها منسوب لجعفر الصادق.
ولما ذكر تعالى ما أنعم به على الإنسان من تعليمه البيان، ذكر ما امتن به من وجود الشمس والقمر، وما فيهما من المنافع العظيمة للإنسان، إذ هما يجريان على حساب معلوم وتقدير سوي في بروجهما ومنازلهما. والحسبان مصدر كالغفران، وهو بمعنى الحساب، قاله قتادة. وقال الضحاك وأبو عبيدة: جمع حساب، كشهاب وشهبان. قال ابن عباس وأبو مالك وقتادة: لهما في طلوعهما وغروبهما وقطعهما البروج، وغير ذلك حسبانات شتى. وقال ابن زيد: لولا الليل والنهار لم يدر أحد كيف يحسب شيئا يريد من مقادير الزمان. وقال مجاهد: الحسبان: الفلك المستدير، شبهه بحسبان الرحى، وهو العود المستدير الذي باستدارته تستدير المطحنة. وارتفع الشمس على الابتداء وخبره بحسبان، فأما على حذف، أي جري الشمس والقمر كائن بحسبان. وقيل: الخبر محذوف، أي يجريان بحسبان، وبحسبان متعلق بيجريان، وعلى قول مجاهد: تكون الباء في بحسبان ظرفية، لأن الحسبان عنده الفلك.
ولما ذكر تعالى ما أنعم به من منفعة الشمس والقمر، وكان ذلك من الآيات العلوية، ذكر في مقابلتهما من الآثار السفلية النجم والشجر، إذ كانا رزقا للإنسان، وأخبر أنهما جاريان على ما أراد الله بهما، من تسخيرهما وكينونتهما على ما اقتضته حكمته تعالى. ولما ذكر ما به حياة الأرواح من تعليم القرآن، ذكر ما به حياة الأشباح من النبات الذي له ساق، وكان تقديم النجم، وهو مالا ساق له، لأنه أصل القوت، والذي له ساق ثمره يتفكه به غالبا. والظاهر أن النجم هو الذي شرحناه، ويدل عليه اقترانه بالشجر. وقال مجاهد وقتادة والحسن: النجم: اسم الجنس من نجوم السماء. وسجودهما، قال مجاهد والحسن: ذلك في النجم بالغروب ونحوه، وفي الشجر بالظل واستدارته. وقال مجاهد أيضا: والسجود تجوز، وهو عبارة عن الخضوع والتذلل. والجمل الأول فيها ضمير يربطها بالمبتدأ، وأما في هاتين الجملتين فاكتفى بالوصل المعنوي عن الوصل اللفظي، إذ معلوم أن الحسبان هو حسبانه، وأن السجود له لا لغيره، فكأنه قيل: بحسبانه ويسجدان له. ولما أوردت هذه الجمل