تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ١١٢
إلا على مذهب أبي الحسن في قوله: إن ركبا جمع راكب. وقال أيضا الزمخشري: وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد: هم الذكور والإناث، فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين، ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث، لأنهن توابع لرجالهن. انتهى. وغيره يجعله من باب التغليب والنهي، ليس مختصا بانصبابه على قوم ونساء بقيد الجمعية من حيث المعنى، وإن كان ظاهر اللفظ ذلك، بل المعنى: لا يسخر أحد من أحد، وإنما ذكر الجمع، والمراد به كل فرد فرد ممن يتناوله عموم البدل. فكأنه إذا سخر الواحد، كان بمجلسه ناس يضحكون على قوله، أو بلغت سخريته ناسا فضحكوا، فينقلب الحال إلى جماعة. * (عسى أن يكونوا) *: أي المسخور منهم، * (خيرا منهم) *: أي من الساخرين بهم. وهذه الجملة مستأنفة، وردت مورد جواب المستخبر عن العلة الموجبة لما جاء النهي عنه، أي ربما يكون المسخور منه عند الله خيرا من الساخر، لأن العلم بخفيات الأمور إنما هو لله تعالى. وعن ابن مسعود: لو سخرت من كلب، خشيت أن أحول كلبا.
* (ولا نساء من نساء) *: روي أن عائشة وحفصة، رضي الله تعالى عنهما، رأتا أم سلمة ربطت حقويها بثوب أبيض وسدلت طرفه خلفها، فقالت عائشة لحفصة:
انظري إلى ما يجر خلفها، كأنه لسان كلب. وعن عائشة، أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة الهلالية، وكانت قصيرة. وعن أنس: كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم) يعيرن أم سلمة بالقصر. وقالت صفية لرسول الله صلى الله عليه وسلم): يعيرنني ويقلن يا يهودية بنت يهوديين، فقال لها: هلا قلت إن أبي هارون، وإن عمي موسى، وإن زوجي محمد؟ وقرأ عبد الله وأبي: عسوا أن يكونوا، وعسين أن يكن، فعسى ناقصة، والجمهور: عسى فيهما تامة، وهي لغتان: الإضمار لغة تميم، وتركه لغة الحجاز.
* (ولا تلمزوا أنفسكم) *: ضم الميم في تلمزوا، الحسن والأعرج وعبيد عن أبي عمرو. وقال أبو عمرو: هي عربية؛ والجمهور؛ بالكسر، واللمز بالقول والإشارة ونحوه مما يفهمه آخر، والهمز لا يكون إلا باللسان، والمعنى: لا يعب بعضكم بعضا، كما قال: فاقتلوا أنفسكم، كأن المؤمنين نفس واحدة، إذ هم إخوة كالبنيان يشد بعضه بعضا، وكالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائره بالسهر والحمى. ومفهوم أنفسكم أن له أن يعيب غيره، مما لا يدين بدينه. ففي الحديث: (اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس). وقيل: المعنى لا تفعلوا ما تلمزون به، لأن من فعل ما استحق اللمز، فقد لمز نفسه.
* (ولا تنابزوا بالالقاب) *: اللقب إن دل على ما يكرهه المدعو به، كان منهيا، وأما إذا كان حسنا، فلا ينهى عنه. وما زالت الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير. وروي أن بني سلمة كانوا قد كثرت فيهم الألقاب، فنزلت الآية بسبب ذلك. وفي الحديث: (كنوا أولادكم). قال عطاء: مخافة الألقاب. وعن عمر: (أشيعوا الكنى فإنها سنة). انتهى، ولا سيما إذا كانت الكنية غريبة، لا يكاد يشترك فيها أحد مع من تكنى بها في عصره، فإنه يطير بها ذكره في الآفاق، وتتهادى أخباره الرفاق، كما جرى في كنيتي بأبي حيان، واسمي محمد. فلو كانت كنيتي أبا عبد الله أو أبا بكر، مما يقع فيه الاشتراك، لم أشتهر تلك الشهرة، وأهل بلادنا جزيرة الأندلس كثيرا ما يلقبون الألقاب، حتى قال فيهم أبو مروان الطنبي:
* يا أهل أندلس ما عندكم أدب * بالمشرق الأدب النفاخ بالطيب * * يدعى الشباب شيوخا في مجالسهم * والشيخ عندكم يدعى بتلقيب * فمن علماء بلادنا وصالحيهم من يدعى الواعي وباللص وبوجه نافخ، وكل هذا يحرم تعاطيه. قيل: وليس من هذا قول المحدثين سليمان الأعمش وواصل الأحدب ونحوه مما تدعو الضرورة إليه، وليس فيه قصد استخفاف ولا
(١١٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 ... » »»