تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ١١٤
وعرض المسلم مثل دمه في التحريم). وفي الحديث المستفيض: (فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم). ولا يباح من هذا المعنى إلا ما تدعو الضرورة إليه، من تجريح الشهود والرواة، والخطاب إذا استنصح من يخطب إليه من يعرفهم، والعرب تشبه الغيبة بأكل اللحم، ومنه:
وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم * (أيحب أحدكم) *، قال الزمخشري: تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه، وفيه مبالغات شتى، منها: الاستفهام الذي معناه التقرير، ومنها: جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة، ومنها: إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحدا من الأحدين لا يحب ذلك، ومنها: أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخا، ومنها: أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعله ميتا. انتهى. وقال الرماني: كراهية هذا اللحم يدعو إليه الطبع، وكراهية الغيبة يدعو إليها العقل، وهو أحق أن يجاب، لأنه بصير عالم، والطبع أعمى جاهل. انتهى. وقال أبو زيد السهيلي: ضرب المثل لأخذه العرض يأكل اللحم، لأن اللحم ستر على العظم، والشاتم لأخيه كأنه يقشر ويكشف ما عليه من ستر.
وقال تعالى: * (ميتا) *، لأن الميت لا يحس، وكذلك الغائب لا يسمع ما يقول فيه المغتاب، ثم هو في التحريم كآكل لحم الميت. انتهى. وروي في الحديث: (ما صام من أكل لحوم الناس). وقال أبو قلابة الرياشي: سمعت أبا عاصم يقول: ما اغتبت أحدا منذ عرفت ما في الغيبة. وقيل: لعمر بن عبيد: لقد وقع فيك فلان حتى رحمناك، قال: إياه فارحموا. وقال رجل للحسن: بلغني أنك تغتابني، قال: لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي. وانتصب ميتا على الحال من لحم، وأجاز الزمخشري أن ينتصب عن الأخ، وهو ضعيف، لأن المجرور بالإضافة لا يجيء الحال منه إلا إذا كان له موضع من الإعراب، نحو: أعجبني ركوب الفرس مسرجا، وقيام زيد مسرعا. فالفرس في موضع نصب، وزيد في موضع رفع. وقد أجاز بعض أصحابنا أنه إذا كان الأول جزأ أو كالجزء، جاز انتصاب الحال من الثاني، وقد رددنا عليه ذلك فيما كتبناه في علم النحو. * (فكرهتموه) *، قال الفراء: أي فقد كرهتموه، فلا تفعلون. وقيل: لما وقفهم على التوبيخ بقوله: * (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا) *، فأجاب عن هذا: لأنهم في حكم من يقولها، فخوطبوا على أنهم قالوا لا، فقيل لهم: فكرهتموه، وبعد هذا يقدر فلذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظير ذلك. وعلى هذا التقدير يعطف قوله: * (واتقوا الله) *، قاله أبو علي الفارسي، وفيه عجرفة العجم.
وقال الزمخشري: ولما قررهم عز وجل بأن أحدا منهم لا يحب أكل جيفة أخيه، عقب ذلك بقوله: * (فكرهتموه) *، أي فتحققت بوجوب الإقرار عليكم بأنكم لا تقدرون على دفعه وإنكاره لإباء البشرية عليكم أن تجحدوا كراهتكم له وتقذركم منه، فليتحقق أيضا أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة والطعن في أعراض المسلمين. انتهى، وفيه أيضا عجرفة العجم. والذي قدره الفراء أسهل وأقل تكلفا، وأجرى على قواعد العربية. وقى ل: لفظه خبر، ومعناه الأمر، تقديره: فاكرهوه، ولذلك عطف عليه * (واتقوا الله) *، ووضع الماضي موضع الأمر في لسان العرب كثير، ومنه اتقى الله امرؤ فعل خيرا يثب عليه، أي ليتق الله، ولذلك انجزم يثب على جواب الأمر.
وما أحسن ما جاء الترتيب في هذه الآية. جاء الأمر أولا باجتناب الطريق التي لا تؤدي إلى العلم، وهو الظن؛ ثم نهى ثانيا عن طلب تحقق ذلك الظن، فيصير علما بقوله: * (ولا تجسسوا) *؛ ثم نهى ثالثا عن ذكر ذلك إذا علم، فهذه أمور ثلاثة مترتبة، ظن فعلم بالتجسس فاغتياب. وضمير النصف في كرهتموه، الظاهر أنه عائد على الأكل. وقيل: على الميت. وقرأ أبو سعيد الخدري، وأبو حيوة: فكرهتموه، الظاهر أنه عائد على الأكل. وقيل: على الميت. وقرأ أبو سعيد الخدري، وأبو حيوة: فكرهتموه، بضم الكاف وتشديد الراء؛ ورواها الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم)، والجمهور: بفتح الكاف وتخفيف الراء، وكره يتعدى إلى واحد، فقياسه إذا ضعف أن يتعدى إلى اثنين، كقراءة الخدري ومن معه، أي جعلتم فكرهتموه. فأما قوله: * (وكره إليكم الكفر) * فعلى التضمين بمعنى بغض، وهو يتعدى لواحد، وبإلى إلى آخر، وبغض منقول بالتضعيف من بغض الشيء إلى زيد
(١١٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 ... » »»