تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ١٢٣
اعرف الحق تعرف أهله. * (من خلق جديد) *: أي من البعث من القبور.
* (ولقد خلقنا الإنسان) *: هذه آيات فيها إقامة حجج على الكفار في إنكارهم البعث، والإنسان اسم جنس. وقيل: آدم. * (ونحن أقرب) *: قرب علم به وبأحواله، لا يخفى عليه شيء من خفياته، فكأن ذاته قريبة منه، كما يقال: الله في كل مكان، أي بعلمه، وهو منزه عن الأمكنة. و * (حبل الوريد) *: مثل في فرط القرب، كقول العرب: هو مني مقعد القابلة، ومقعد الإزار. قال ذو الرمة:
والموت أدنى لي من الوريد والحبل: العرق الذي شبه بواحد الحبال، وإضافته إلى الوريد للبيان، كقولهم: بعير سانية. أو يراد حبل العاتق، فيضاف إلى الوريد، كما يضاف إلى العاتق لاجتماعهما في عضو واحد، والعامل في إذ أقرب. وقيل: اذكر، قيل: ويحسن تقدير اذكر، لأنه أخبر خبرا مجردا بالخلق والعلم بخطرات الأنفس، والقرب بالقدرة والملك. فلما تم الإخبار، أخبر بذكر الأحوال التي تصدق هذا الخبر، وتعين وروده عند السامع. فمنها: * (إذ يتلقى المتلقيان) *، ومنها مجيء سكرة الموت، ومنها: النفخ في الصور، ومنها: مجيء كل نفس معها سائق وشهيد. والمتلقيان: الملكان الموكلان بكل إنسان؛ ملك اليمين يكتب الحسنات، وملك الشمال يكتب السيئات. وقال الحسن: الحفظة أربعة، اثنان بالنهار واثنان بالليل. وقعيدة: مفرد، فاحتمل أن يكون معناه: مقاعد، كما تقول: جليس وخليط: أي مجالس ومخالط، وأن يكون عدل من فاعل إلى فعيل للمبالغة، كعليم. قال الكوفيون: مفرد أقيم مقام اثنين، والأجود أن يكون حذف من الأول لدلالة الثاني عليه، أي عن اليمين قعيد، كما قال الشاعر:
* رماني بأمر كنت منه ووالدي * بريئا ومن أجل الطوى رماني * على أحسن الوجهين فيه، أي كنت منه بريا، ووالدي بريا. ومذهب المبرد أن التقدير عن اليمين قعيد، وعن الشمال، فأخر قعيد عن موضعه. ومذهب الفراء أن لفظ قعيد يدل على الاثنين والجمع، فلا يحتاج إلى تقدير. وقرأ الجمهور: * (ما يلفظ من قول) *، وظاهر ما يلفظ العموم. قال مجاهد، وأبو الحوراء: يكتب عليه كل شيء حتى أنينه في مرضه. وقال الحسن، وقتادة: يكتبان جميع الكلام، فيثبت الله تعالى من ذلك الحسنات والسيئات، ويمحو غير ذلك. وقيل: هو مخصوص، أي من قول خير أو شر. وقال: معناه عكرمة، وما خرج عن هذا لا يكتب. واختلفوا في تعيين قعود الملكين، ولا يصح فيه شيء. * (رقيب) *: ملك يرقب. * (عتيد) *: حاضر، وإذا كان على اللفظ رقيب عتيد، فأحرى على العمل. وقال الحسن: فإذا مات، طويت صحيفته. وقيل: له يوم القيامة اقرأ كتابك.
* (وجاءت سكرة الموت) *: هو معطوف على * (إذ يتلقى) *، وسكرة الموت: ما يعتري الإنسان عند نزاعه، والباء في * (بالحق) * للتعدية، أي جاءت سكرة الموت الحق، وهو الأمر الذي أنطق الله به كتبه وبعث به رسله، من سعادة الميت أو شقاوته، أو للحال، أي ملتبسه بالحق. وقرأ ابن مسعود: سكران جمعا. * (ذلك ما كنت منه تحيد) *: أي تميل. تقول: أعيش كذا وأعيش كذا، فمتى فكر في قرب الموت، حاد بذهنه عنه وأمل إلى مسافة بعيدة من الزمن. ومن الحيد: الحذر من الموت، وظاهر تحيد أنه خطاب للإنسان الذي جاءته سكرة الموت. وقال الزمخشري: الخطاب للفاجر. تحيد: تنفر وتهرب. * (ذلك يوم الوعيد) *، هو على حذف: أي وقت ذلك يوم الوعيد. والإشارة إلى مصدر نفخ، وأضاف اليوم إلى الوعيد، وإن كان يوم الوعد والوعيد معا على سبيل التخويف.
وقرأ الجمهور: معها؛ وطلحة: بالحاء مثقلة، أدغم العين في
(١٢٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 118 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 ... » »»