تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ١١٦
* إذا سئلوا ما لهم من علا * أشاروا إلى أعظم ناخره * ومن ذلك: افتخار أولاد مشايخ الزوايا الصوفية بآبائهم، واحترام الناس لهم بذلك وتعظيمهم لهم، وإن كان الأولاد بخلاف الآباء في الدين والصلاح. وقرأ الجمهور: إن، بكسر الهمزة؛ وابن عباس: بفتحها، وكان قرأ: لتعرفوا، مضارع عرف، فاحتمل أن تكون أن معمولة لتعرفوا، وتكون اللام في لتعرفوا لام الأمر، وهو أجود من حيث المعنى. وأما إن كانت لام كي، فلا يظهر المعنى أن جعلهم شعوبا وقبائل لأن تعرفوا أن الأكرم هو الأتقى. فإن جعلت مفعول لتعرفوا محذوفا، أي لتعرفوا الحق، لأن أكرمكم عند الله أتقاكم، ساغ في لام لتعارفوا أن تكون لام كي.
* (قالت الاعراب ءامنا) *، قال مجاهد: نزلت في بني أسد بن خزيمة، قبيلة تجاور المدينة، أظهروا الإسلام وقلوبهم دخلة، إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا. وقيل: مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار قالوا آمنا فاستحققنا الكرامة، فرد الله تعالى عليهم بقوله: * (قل لم تؤمنوا) *، أكذبهم الله في دعوى الإيمان، ولم يصرح بإكذابهم بلفظه، بل بما دل عليه من انتفاء إيمانهم، وهذا في أعراب مخصوصين. فقد قال الله تعالى: * (ومن الاعراب من يؤمن بالله واليوم الاخر) * الآية.
* (ولاكن قولوا أسلمنا) *، فهو اللفظ الصادق من أقوالكم، وهو الاستسلام والانقياد ظاهرا، ولم يواطئ أقوالكم ما في قلوبكم، فلذلك قال: * (ولما يدخل الايمان فى قلوبكم) *: وجاء النفي بلما الدالة على انتفاء الشيء إلى زمان الإخبار، وتبين أن قوله: * (لم تؤمنوا) * لا يراد به انتفاء الإيمان في الزمن الماضي، بل متصلا بزمان الإخبار أيضا، لأنك إذا نفيت بلم، جاز أن يكون النفي قد انقطع، ولذلك يجوز أن تقول: لم يقم زيد وقد قام، وجاز أن يكون النفي متصلا بزمن الإخبار. فإذا كان متصلا بزمن الإخبار، لم يجز أن تقول: وقد قام، لتكاذب الخبرين. وأما لما، فإنها تدل على نفي الشيء متصلا بزمان الإخبار، ولذلك امتنع لما يقم زيد وقد قام للتكاذب. والظاهر أن قوله: * (لما * يدخل الايمان فى قلوبكم) * ليس له تعلق بما قبله من جهة الإعراب. وقال الزمخشري: فإن قلت: هو بعد قوله: * (قل لم تؤمنوا) * يشبه التكرير من غير استقلال بفائدة متجددة؛ قلت: ليس كذلك، فإن فائدة قوله: * (لم تؤمنوا) * هو تكذيب دعواهم، وقوله: * (ولما يدخل الايمان فى قلوبكم) * توقيت لما أمروا به أن يقولوه، كأنه قيل لهم: * (ولاكن قولوا أسلمنا) * حين لم يثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم، لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في قوله: * (قولوا) *. انتهى.
والذي يظهر أنهم أمروا أن يقولوا: * (قولوا أسلمنا) * غير مقيد بحال، وأن * (ولما يدخل الايمان) * إخبار غير قيد في قولهم. وقال الزمخشري: وما في لما من معنى التوقع دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد. انتهى، ولا أدري من أي وجه يكون ما نفي بلما يقع بعد ولما، إنما تنفي ما كان متصلا بزمان الإخبار، ولا تدل على ما ذكر، وهي جواب لقد فعل، وهب أن قد تدل على توقع الفعل. فإذا نفي ما دل على التوقع، فكيف يتوهم أنه يقع بعد: * (وإن تطيعوا * الله ورسوله) * بالإيمان والأعمال؟ وهذا فتح لباب التوبة. وقرأ الجمهور: * (لا يلتكم) *، من لات يليت، وهي لغة الحجاز. والحسن والأعرج وأبو عمرو: ولا يألتكم، من ألت، وهي لغة غطفان وأسد. * (ثم لم يرتابوا) *، ثم تقتضي التراخي، وانتفاء الريبة يجب أن يقارن الإيمان، فقيل: من ترتيب الكلام لا من ترتيب الزمان، أي ثم أقول لم يرتابوا. وقيل: قد يخلص الإيمان، ثم يعترضه ما يثلم إخلاصه، فنفي ذلك، فحصل التراخي، أو أريد انتفاء الريبة في الأزمان المتراخية المتطاولة، فحاله في ذلك كحاله في الزمان الأول الذي آمن فيه. * (أولئك هم الصادقون) *: أي في قولهم آمنا، حيث طابقت ألسنتهم عقائدهم، وظهرت ثمرة ذلك عليهم بالجهاد بالنفس والمال. وفي سبيل الله يشمل جميع الطاعات البدنية والمالية، وليسوا كأعراب بني أسد في قولهم آمنا، وهم كاذبون في ذلك.
* (قل أتعلمون الله بدينكم) *، هي منقولة من: علمت به، أي شعرت به، ولذلك تعدت إلى واحد
(١١٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 ... » »»