تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ١٠٩
لكان هو، أي صبرهم خيرا لهم. وقال الزمخشري: في كان، إما ضمير فاعل الفعل المضمر بعد لو. انتهى، لأنه قدر أن وما بعدها فاعل بفعل مضمر، فأعاد الضمير على ذلك الفاعل، وهو الصبر المنسبك من أن ومعمولها خيرا لهم في الثواب عند الله، وفي انبساط نفس الرسول صلى الله عليه وسلم) وقضائه لحوائجهم. وقد قيل: إنهم جاءوا في أسارى، فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم) النصف وفادى على النصف، ولو صبروا لأعتق الجميع بغير فداء. وقيل: لكان صبرهم أحسن لأدبهم. * (والله غفور رحيم) *، لن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا.
* (رحيم ياأيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة) * الآية، حدث الحرث بن ضرار قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فدعاني إلى الإسلام، فأسلمت، وإلى الزكاة فأقررت بها، فقلت: أرجع إلى قومي وأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن أجابني جمعت زكاته، فترسل من يأتيك بما جمعت. فلما جمع ممن استجاب له، وبلغ الوقت الذي أراد الرسول صلى الله عليه وسلم) أن يبعث إليه، واحتبس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قال لسروات قومه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقت لي وقتا إلى من يقبض الزكاة، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم) الخلف، ولا أرى حبس الرسول إلا من سخطه. فانطلقوا بها إليه، وكان عليه السلام البعث بعث الوليد بن الحرث، ففرق، فرجع فقال: منعني الحرث الزكاة وأراد قتلي، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلى الحرث، فاستقبل الحرث البعث وقد فصل من المدينة، فقالوا: هذا الحرث، إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك قال: ولم؟ فقالوا: بعث إليك الوليد، فرجع وزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله، قال: لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيت رسولك، ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسولك خشية أن يكون سخطة من الله ورسوله، قال: فنزلت هذه الآية.
وفاسق وبنبأ مطلقان، فيتناول اللفظ كل واحد على جهة البدل، وتقدم قراءة فتبينوا وفتثبتوا في سورة النساء، وهو أمر يقتضي أن لا يعتمد على كلام الفاسق، ولا يبنى عليه حكم. وجاء الشرط بحرف إن المقتضي للتعليق في الممكن، لا بالحرف المقتضي للتحقيق، وهو إذا، لأن مجيء الرجل الفاسق للرسول وأصحابه بالكذب، إنما كان على سبيل الندرة. وأمروا بالتثبت عند مجيئه لئلا يطمع في قبول ما يلقيه إليهم، ونبا ما يترتب على كلامه. فإذا كانوا بمثابة التبين والتثبت، كف عن مجيئهم بما يريه. * (ءان) *: مفعول له، أي كراهة أن يصيبوا، أو لئلا تصيبوا، * (سوءا بجهالة) * حال، أي جاهلين بحقيقة الأمر معتمدين على خبر الفاسق، * (فتصبحوا) *: فتصيروا، * (على ما فعلتم) *: من إصابة القوم بعقوبة بناء على خبر الفاسق، * (نادمين) *: مقيمين على فرط منكم، متمنين أنه لم يقع. ومفهوم * (إن جاءكم فاسق) *: قبول كلام غير الفاسق، وأنه لا يتثبت عنده، وقد يستدل به على قبول خبر الواحد العدل. وقال قتادة: لما نزلت هذه الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (التثبت من الله والعجلة من الشيطان). وقال مقلد بن سعيد: هذه الآية ترد علي من قال: إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة، لأن الله تعالى أمر بالتبين قبل القبول. انتهى. وليس كما ذكر، لأنه ما أمر بالتبيين إلا عند مجيء الفاسق، لا مجيء المسلم، بل بشرط الفسق. والمجهول الحال يحتمل أن يكون فاسقا، فالاحتياط لازم.
* (واعلموا أن فيكم رسول الله) *: هذا توبيخ لمن يكذب للرسول عليه الصلاة والسلام، ووعيد بالنصيحة. ولا يصدر ذلك إلا ممن هو شاك في الرسالة، لأن الله تعالى لا يترك نبيه صلى الله عليه وسلم) يعتمد على خبر الفاسق، بل بين له ذلك. والظاهر أن قوله: * (واعلموا أن فيكم رسول الله) * كلام تام، أمرهم بأن يعلموا أن الذي هو بين ظهرانيكم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فلا تخبروه بما لا يصح، فإنه رسول الله يطلعه على ذلك.
ثم أخبر تعالى أن رسوله صلى الله عليه وسلم) لو أطاعكم في كثير من الأمر الذي يؤدي إليه اجتهادكم وتقدمكم بين يديه * (لعنتم) *:
(١٠٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 ... » »»