تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٣٦٣
هم الملائكة تبرؤا عن ما نسب إليهم الكفرة من كونهم بنات الله، وأخبروا عن حال عبوديتهم، وعلى أي حالة هم فيها. وفي الحديث: (أن السماء ما فيها موضع إلا وفيه ملك ساجد أو واقف يصلي)، وعن ابن مسعود: (موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدماه)، وحذف المبتدأ مع من جيد فصيح، كما مر في قوله: * (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن) *، أي وأن من أهل الكتاب أحد. وقال العرب: منا ظعن ومنا أقام، يريد: منا فريق ظعن ومنا فريق أقام. وقال الزمخشري: وما منا أحد إلا له مقام معلوم، حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، كقوله:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا بكفي كان من أرمي البشر انتهى. وليس هذا من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، لأن أحدا المحذوف مبتدأ. وإلا له مقام معلوم خبره، ولأنه لا ينعقد كلام من قوله: وما منا أحد، فقوله: * (إلا له مقام معلوم) * هو محط الفائدة. وإن تخيل أن * (إلا له مقام معلوم) * في موضع الصفة، فقد نصوا على أن إلا لا تكون صفة إذا حذف موصوفها، وأنها فارقت غير إذا؛ كانت صفة في ذلك، ليتمكن غيره في الوصف وقلة تمكن إلا فيه، وجعل ذلك كقوله: أنا ابن جلا، أي اين رجل جلا؛ وبكفي كان، أي رجل كان، وهذا عند النحويين من أقبح الضرورات. * (وإنا لنحن الصافون) *: أي أقدامنا في الصلاة، أو أجنحتنا في الهواء، أو حول العرش داعين للمؤمنين. وقال الزهراوي: قيل إن المسلمين إنما اصطفوا في الصلاة منذ نزلت هذه الآية، ولا يصطف أحد من الملل غير المسلمين. * (وأن * لنحن المسبحون) *: أي المنزهون الله عن ما نسب إليه الكفرة، أو المنزهون بلفظ التسبيح، أو المصلون. وينبغي أن يجعل قوله: * (سبحان الله عما يصفون) * من كلام الملائكة، فتطرد الجمل وتنساق لقائل واحد، فكأنه قيل: ولقد علمت الملائكة أن ناسبي ذلك لمحضرون للعذاب؛ وقالوا: سبحان الله، فنزهوا عن ذلك واستثنوا من أخلص من عباد الله؛ وقالوا للكفرة: فإنكم وآلهتكم إلى آخره. وكيف نكون مناسبيه، ونحن عبيد بين يديه، لكل منا مقام من الطاعة؟ إلى ما وصفوا به أنفسهم من رتبة العبودية. وقيل: * (وما منا إلا له مقام معلوم) *، هو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي وما من المرسلين أحد إلا له مقام معلوم يوم القيامة على قدر عمله، من قوله تعالى: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا.
ثم ذكر أعمالهم، وأنهم المصطفون في الصلاة المنزهون الله عن ما يقول أهل الضلال. والضمير في * (ليقولون) * لكفار قريش، * (لو أن عندنا ذكرا) *: أي كتابا من كتب الأولين الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل، لأخلصنا العبادة لله، ولم نكذب كما كذبوا. * (فكفروا به) *: أي فجاءهم الذكر الذي كانوا يتمنونه، وهو أشرف الأذكار، لأعجازه من بين الكتب. * (فسوف يعلمون) * عاقبة كفرهم، وما يحل بهم من الانتقام. وأكدوا قولهم بأن المخففة وباللام كونهم كانوا جادين في ذلك، ثم ظهر منهم التكذيب والنفور البليغ، كقوله: * (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) *.
* (ولقد سبقت كلمتنا) *: قرأ الجمهور بالإفراد لما انتظمت في معنى واحد عبر عنها بالإفراد. وقرأ الضحاك: بالجمع، والمراد الموعد بعلوهم على عدوهم في مقامات الحجاج وملاحم القتال في الدنيا، وعلوهم عليهم في الآخرة. وقال الحسن: ما غلب نبي في الحرب، ولا قتل فيها. * (فتول عنهم حتى حين) *: أي إلى مدة يسيرة، وهي مدة الكف عن القتال. وعن السدي: إلى يوم بدر، ورجحه الطبري. وقال قتادة: إلى موتهم. وقال ابن زيد: إلى يوم القيامة. * (وأبصارهم) *: أي انظر إلى عاقبة أمرهم، فسوف
(٣٦٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 358 359 360 361 362 363 364 365 366 367 368 ... » »»