تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٣٤٩
يلحقهم، أو لإكراههم على الأكل وملء البطون زيادة في عذابهم، ذكر ما يسقون لغلبة العطش، وهو ما يمزج لهم من الحميم. ولما كان الأكل يعتقبه ملء البطن، كان العطف بالفاء في قوله: * (فما) *. ولما كان الشرب يكثر تراخيه عن الأكل، أتي بلفظ ثم المقتضية المهلة، أو لما امتلأت بطونهم من ثمرة الشجرة، وهو حار، أحرق بطونهم وعطشهم، فأخر سقيهم زمانا ليزدادوا بالعطش عذابا إلى عذابهم، ثم سقوا ما هو أحر وآلم وأكره.
* (حميم ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم) *: لما ذهب بهم من منازلهم التي أسكنوها في النار إلى شجرة الزقوم للأكل والتملؤ منها والسقي من الحميم ونواحي رجوعهم إلى منازلهم، دخلت ثم لدلالة على ذلك، والرجوع دليل على الانتقال في وقت الأكل والشرب إلى مكان غير مكانهما، ثم ذكر تعالى حالهم في تقليد آبائهم. والضمير لقريش وأن ذلك التقليد كان سببا لاستحقاقهم تلك الشدائد، أي وجدوا آباءهم ضالين، فاتبعوهم على ضلالتهم، مسرعين في ذلك لا يثبطهم شيء. ثم أخبر بضلال أكثر من تقدم من الأمم، هذا وما خلت أزمانهم من إرسال الرسل، وإنذارهم عواقب التكذيب. وفي قوله: * (فانظر) * ما يقتضي إهلاكهم وسوء عاقبتهم، واستثنى المخلصين من عباده، وهم الأقل المقابل لقوله: * (أكثر الاولين) *، والمعنى: إلا عباد الله، فإنهم نجوا. ولما ذكر ضلال الأولين، وذكر أولهم شهرة، وهم قوم نوح، عليه السلام، تضمن أشياء منها: الدعاء على قومه، وسؤاله النجاة، وطلب النصرة. وأجابه تعالى في كل ذلك إجابة بلغ بها مراده. واللام في * (فلنعم) * جواب قسم كقوله:
يمينا لنعم السيدان وجدتما والمخصوص بالمدح محذوف تقديره: فلنعم المجيبون نحن، وجاء بصيغة الجمع للعظمة والكبرياء لقوله: * (فقدرنا فنعم القادرون) * و * (الكرب العظيم) *، قال السدي: الغرق، ومنه تكذيب الكفرة وركوب الماء، وهو له، وهم فصل متعين للفصيلة لا يحتمل غيره. قال ابن عباس، وقتادة: أهل الأرض كلهم من ذرية نوح.
وفي الحديث: (أنه عليه السلام قرأ * (وجعلنا ذريته هم الباقين) * فقال: سام وحام ويافث). وقال الطبري: العرب من أولاد سام، والسودان من أولاد حام، والترك وغيرهم من أولاد يافث. وقالت فرقة: أبقى الله ذرية نوح ومد في نسله، وليس الناس منحصرين في نسله، بل في الأمم من لا يرجع إليه.
* (وتركنا عليه فى الاخرين) *: أي في الباقين غابر الدهر؛ ومفعول تركنا محذوف تقديره ثناء حسنا جميلا في آخر الدهر، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وسلام. رفع بالابتداء مستأنف، سلم الله عليه ليقتدي بذلك البشر، فلا يذكره أحد من العالمين بسوء. سلم تعالى عليه جزاء على ما صبر طويلا، من أقوال الكفرة وإذايتهم له. وقال الزمخشري: * (وتركنا عليه فى الاخرين) *، هذه الكلمة، وهي * (سلام على نوح فى العالمين * نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين * وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادى إنكم متبعون * فأرسل فرعون فى المدائن حاشرين * إن هؤلاء لشرذمة قليلون * وإنهم لنا لغائظون * وإنا لجميع حاذرون * فأخرجناهم من جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم * كذلك وأورثناها بنى إسراءيل * فأتبعوهم مشرقين * فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معى ربى سيهدين * فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم * وأزلفنا ثم الاخرين * وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الاخرين) *: أي من كان مكذبا له من قومه، لما ذكر تحياته ونجاة أهله، إذ كانوا مؤمنين، ذكر هلاك غيرهم بالغرق.
(٣٤٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 344 345 346 347 348 349 350 351 352 353 354 ... » »»