تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٢٢٦
يعم في سياق النفي، جاء الضمير مجموعا على المعنى في قوله: * (لهم) *، مغلبا فيه المذكر على المؤنث. وقال الزمخشري: كان من حق الضمير أن يوحد، كما تقول: ما جاءني من رجل ولا امرأة إلا كان من شأنه كذا. انتهى. ليس كما ذكر، لأن هذا عطف بالواو، فلا يجوز إفراد الضمير إلا على تأويل الحذف، أي: ما جاءني من رجل إلا كان من شأنه كذا، وتقول: ما جاء زيد ولا عمرو إلا ضربا خالدا، ولا يجوز إلا ضرب إلا على الحذف، كما قلنا.
* (وإذ تقول) *: الخطاب للرسول، عليه السلام. * (للذى أنعم الله عليه) *، بالإسلام، وهو أجل النعم، وهو زيد بن حارثة الذي كان الرسول تبناه. * (وأنعمت عليه) *: وهو عتقه، وتقدم طرف من قصته في أوائل السورة. * (أمسك عليك زوجك) *: وهي زينب بنت جحش، وتقدم أن الرسول كان خطبها له. وقيل: أنعم الله عليه بصحبتك ومودتك، وأنعمت عليه بتبنيه. فجاء زيد فقال: يا رسول الله، إني أريد أن أفارق صاحبتي، فقال: (أرا بك منها شيء) قال: لا والله ولكنها تعظم علي لشرفها وتؤذيني بلسانها، فقال: (* (أمسك عليك زوجك) *)، أي لا تطلقها، وهو أمر ندب، (* (واتق الله) * في معاشرتها). فطلقها، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم)، بعد انقضاء عدتها. وعلل تزويجه إياها بقوله: * (لكى لا يكون على المؤمنين حرج) * في أن يتزوجوا زوجات من كانوا تبنوه إذا فارقوهن، وأن هؤلاء الزوجات ليست داخلات فيما حرم في قوله: * (وحلائل أبنائكم) *.
وقال علي بن الحسين: كان قد أوحى الله إليه أن زيدا سيطلقها، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها. فلما شكا زيد خلقها، وأنها لا تطيعه، وأعلمه بأنه يريد طلاقها، قال: له (* (أمسك عليك زوجك واتق الله) *)، على طريق الأدب والوصية، وهو يعلم أنه سيطلقها. وهذا هو الذي أخفي في نفسه، ولم يرد أنه يأمره بالطلاق. ولما علم من أنه سيطلقها، وخشي رسول الله أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد، وهو مولاه، وقد أمره بطلاقها، فعاتبه الله على هذا القدر في شيء قد أباحه الله بأن قال؛ * (أمسك) *، مع علمه أنه يطلق، فأعلمه أن الله أحق بالخشية، أي في كل حال. انتهى. وهذا المروي عن علي بن الحسين، هو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين، كالزهري، وبكر بن العلاء، والقشيري، والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم. والمراد بقوله: * (وتخشى الناس) *، إنما هو إرجاف المنافقين في تزويج نساء الأنبياء، والنبي صلى الله عليه وسلم) معصوم في حركاته وسكناته. ولبعض المفسرين كلام في الآية يقتضي النقص من منصب النبوة، ضربنا عنه صفحا. وقيل؛ قوله * (واتق الله وتخفى فى نفسك ما الله مبديه) *: خطاب من الله عز وجل، أو من النبي صلى الله عليه وسلم) لزيد، فإنه أخفى الميل إليها، وأظهر الرغبة عنها، لما توهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أراد أن تكون من نسائه. انتهى.
وللزمخشري: في هذه الآية كلام طويل، وبعضه لا يليق ذكره بما فيه غير صواب مما جرى فيه على مذهب الاعتزال وغيره، واخترت منه ما أنصه. قال: كم من شيء يتحفظ منه الإنسان ويستحيي من اطلاع الناس عليه، وهو في نفسه مباح متسع وحلال مطلق، لا مقال فيه ولا عيب عند الله. وربما كان الدخول في ذلك المباح سلما إلى حصول واجبات، لعظم أثرها في الدين، ويجل ثوابها، ولو لم يتحفظ منه، لأطلق كثير من الناس فيه ألسنتهم، إلا من أوتي فضلا وعلما ودينا ونظرا في حقائق الأشياء ولبابها دون قشورها. ألا ترى أنهم كانوا إذا طمعوا في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم)، بقوا مرتكزين في مجالسهم لا يديمون مستأنسين بالحديث. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم) يؤذيه قعودهم، ويضيق صدره حديثهم، والحياء يصده أن يأمرهم بالانتشار حتى نزلت: * (يأيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوت النبى إلا أن يؤذن لكم إلى) *. ولو أبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم) مكنون ضميره، وأمرهم أن ينتشروا، لشق عليهم، ولكان بعض المقالة. فهذا من ذلك القبيل، لأن طموح قلب الإنسان إلى بعض مشتهياته، من امرأة أو غيرها، غير موصوف بالقبح في العقل ولا في الشرع. وتناول المباح بالطريق الشرعي ليس بقبيح أيضا، وهو خطبة زينب ونكاحها من غير استنزال زيد عنها، ولا طلب إليه. ولم يكن مستنكرا عندهم أن ينزل الرجل منهم عن امرأته لصديقه، ولا مستهجنا إذا نزل عنها أن ينكحها الآخر. فإن المهاجرين حين دخلوا المدينة، استهم الأنصار بكل شيء، حتى أن الرجل منهم إذا كانت له امرأتان نزل عن إحداهما وأنكحها المهاجر. وإذا كان الأمر مباحا من جميع جهاته، ولم يكن فيه وجه من وجوه القبح، ولا مفسدة ولا مضرة بزيد ولا بأحد، بل كان مستجرا مصالح؛ ناهيك
(٢٢٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 221 222 223 224 225 226 227 228 229 230 231 ... » »»