تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ٣٨٧
المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم فى جهنم خالدون * تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون) *.
لما ذكر ما كان عليه الكفار من ادعاء الولد والشريك له، وكان تعالى قد أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم) أنه ينتقم منهم ولم يبين إذ ذاك في حياته أم بعد موته، أمره بأنه يدعو بهذا الدعاء أي إن ترني ما تعدهم واقعا بهم في الدنيا أو في الآخرة فلا تجعلني معهم، ومعلوم أنه عليه السلام معصوم مما يكون سببا لجعله معهم، ولكنه أمره أن يدعو بذلك إظهارا للعبودية وتواضعا لله، واستغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم) إذا قام من مجلسه سبعين مرة من هذا القبيل. وقال أبو بكر: وليتكم ولست بخيركم. قال الحسن: كان يعلم أنه خيرهم ولكن المؤمن يهضم نفسه.
وجاء الدعاء بلفظ الرب قبل الشرط وقبل: الجزاء مبالغة في الابتهال إلى الله تعالى والتضرع، ولأن الرب هو المالك الناظر في مصالح العبد. وقرأ الضحاك وأبو عمر إن الجوني ترئني بالهمز بدل الياء، وهذا كما قرىء فأما ترئن ولترؤن بالهمز وهو إبدال ضعيف، ثم أخبر تعالى أنه قادر على تعجيل العذاب لهم كما كانوا يطلبون ذلك وذلك في حياته عليه الصلاة والسلام ولكن تأخيره لأجل يستوفون، والجمهور على أن هذا العذاب في الدنيا. فقيل: يوم بدر. وقيل: فتح مكة. وقيل: هو عذاب الآخرة.
ثم أمره تعالى بحسن الأخلاق والتي هي أحسن شهادة أن لا إله إلا الله و * (السيئة) * الشرك. وقال الحسن: الصفح والإغضاء. وقال عطاء والضحاك: السلام إذا أفحشوا. وحكى الماوردي: * (ادفع) * بالموعظة المنكر والأجود العموم في الحسنى وفيما يسوء و * (التى هى أحسن) * أبلغ من الحسنة للمبالغة الدال عليها أفعل التفضيل، وجاء في صلة التي ليدل على معرفة السامع بالحالة التي هي أحسن. قيل: وهذه الآية منسوخة بآية السيف. وقيل: هي محكمة لأن المداراة محثوث عليها ما لم يؤد إلى ثلم دين وإزراء بمروءة. * (نحن أعلم بما يصفون) * يقتصي أنها آية موادعة، والمعنى بما يذكرون ويصفونك به مما أنت بخلافه.
ثم أمره تعالى أن يستعيذ من نحسات الشياطين والهمز من الشيطان عبارة عن حثه على العصيان والإغراء به كما يهمز الرائض الدابة لتسرع، ثم أمره أن يستعيذ بسورة الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه. وقال ابن زيد: همز الشيطان الجنون، والظاهر أنه أمر بالاستعاذة من حضور الشياطين في كل وقت. وعن ابن عباس عند تلاوة القرآن.
* (حتى إذا جاء أحدهم الموت) * قال الزمخشري: * (حتى) * يتعلق بيصفون أي لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت، والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد للإغضاء عنهم مستعينا بالله على الشيطان أن يستنزله عن الحلم ويغريه على الانتصار منهم، أو على قوله وإنهم لكاذبون انتهى. وقال ابن عطية: * (حتى) * في هذا الموضع حرف ابتداء، ويحتمل أن تكون غاية مجردة بتقدير كلام محذوف والأول أبين لأن ما بعدها هو المعنى به المقصود ذكره انتهى. فتوهم ابن عطية أن حتى إذا كانت حرف ابتداء لا تكون غاية وهي إذا كانت حرف ابتداء لا تفارقها الغاية ولم يبين الكلام المحذوف المقدر. وقال أبو البقاء * (حتى) * غاية في معنى العطف، والذي يظهر لي أن قبلها جملة محذوفة تكون حتى غاية لها يدل عليها ما قبلها التقدير: فلا أكون كالكفار الذين تهمزهم الشياطين ويحضرونهم * (حتى إذا جاء أحدهم الموت) * ونظير حذف هذه الجملة قول الشاعر:
فيا عجبا حتى كليب تسبني أي يسبني الناس حتى كليب، فدل ما بعد حتى على الجملة المحذوفة وفي الآية دل ما قبلها عليها. وقال القشيري: احتج تعالى عليهم وذكرهم قدرته ثم قال: مصرون على الإنكار * (حتى إذا حضر أحدهم الموت) * تيقن ضلالته وعاين الملائكة ندم ولا ينفعه الندم انتهى. وجمع الضمير في * (ارجعون) * إما مخاطبة له تعالى مخاطبة الجمع
(٣٨٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 382 383 384 385 386 387 388 389 390 391 392 ... » »»