تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ٣٨٢
كانوا مسلمين وأن تبعا كان مسلما وكان على شرطه سليمان بن داود وبخهم ثالثا بأنهم يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم) وصحة نسبة وحلوله في سطة هاشم وأمانته وصدقه وشهامته وعقله واتسامه بأنه خير فتيان قريش، وكفى بخطبة أبي طالب حين تزوج خديجة وأنها احتوت على صفات له صلى الله عليه وسلم) طرقت آذان قريش فلم تنكر منها شيئا أي قد سبقت معرفتهم له جملة وتفصيلا، فلا يمكن إنكار شيء من أوصافه.
ثم وبخهم رابعا بأنهم نسبوه إلى الجن وقد علموا أنه أرجحهم عقلا وأثقبهم ذهنا، وأن الفرق بين الحكمة وفصل الخطاب الذي جاء به وبين كلام ذي الجنة غير خاف على من له مسكة من عقل، وهذه التوبيخات الأربع كان يقتضي ما وبخوا به منها أن يكون سببا لانقيادهم إلى الحق لأن التدبير لما جاء به والنظر في سير الماضين وإرسال الرسل إليهم ومعرفة الرسول ذاتا وأوصافا وبراءته من الجنون هاد لمن وفقه الله للهداية، ولكنه جاءهم بما حال بينهم وبين أهوائهم ولم يوافق ما نشؤوا عليه من اتباع الباطل، ولما لم يجدوا له مدفعا لأنه الحق عاملوا بالبهت وعولوا على الكذب من النسبة إلى الجنون والسحر والشعر.
* (بل جاءهم بالحق) * أي بالقرآن المشتمل على التوحيد وما به النجاة في الآخرة والسؤدد في الدنيا.
* (وأكثرهم للحق كارهون) * يدل على أن فيهم من لا يكره الحق وذلك من يترك الإيمان أنفة واستكبارا من توبيخ قومه أن يقولوا: صبأ وترك دين آبائه * (ولو اتبع الحق أهواءهم) * قرأ ابن وثاب * (ولو اتبع) * بضم الواو والظاهر أنه * (الحق) * الذي ذكر قبل في قولهم * (بل جاءهم بالحق) * أي لو كان ما جاء به الرسول من الإسلام والتوحيد متبعا أهواءهم لانقلب شرا وجاء الله بالقيامة وأهلك العالم ولم يؤخر قال معناه الزمخشري وبعضه بلفظه. وقال أيضا: دل بهذا على عظم شأن الحق، فلو * (أتبع * أهواءهم) * لانقلب باطلا ولذهب ما يقوم به العالم فلا يبقى له بعده قوام. وقيل: لو كان ما جاء به الرسول بحكم هوى هؤلاء من اتخاذ شريك لله وولد وكان ذل حقا لم يكن لله الصفات العلية ولم تكن له القدرة كما هي، وكان في ذلك فساد السماوات والأرض. وقيل: كانوا يرون الحق في اتخاذ الآلهة مع الله لكنه لم يصح ذلك لوقع الفساد في السماوات والأرض على ما قرر في دليل التمانع في قوله تعالى * (لو كان فيهما الهة إلا الله لفسدتا) * وقيل: كانت آراؤهم متناقضة فلو اتبع الحق أهواءهم لوقع التناقض واختل نظام العالم. وقال قتادة * (الحق) * هنا الله تعالى.
فقال الزمخشري: معناه ولو كان الله يتبع أهواءهم ويأمر بالشرك والمعاصي لما كان إلها ولما قدر على أن يمسك السماوات والأرض. وقال ابن عطية: ومن قال إن * (الحق) * في الآية هو الله تعالى وكان قد حكاه عن ابن جريج وأبي صالح تشعب له لفظة * (أتبع) * وصعب عليه ترتيب الفساد المذكور في الآية لأن لفظة الاتباع إنما هي استعارة بمعنى أن يكون أهواؤهم يقررها الحق، فنحن نجد الله تعالى قد قرر كفر أمم وأهواءهم وليس في ذلك فساد سماوات، وأما نفسه الذي هو الصواب فلو كان طبق أهوائهم لفسد كل شيء فتأمله انتهى.
وقرأ الجمهور: بنون العظمة وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمرو ويونس عن أبي عمرو بياء المتكلم، وابن أبي إسحاق وعيسى أيضا وأبو البر هثيم وأبو حيوة والجحدري وابن قطيب وأبو رجاء بتاء الخطاب للرسول عليه السلام، وأبو عمرو في رواية * (ءاتيناهم) * بالمد أي أعطيناهم، والجمهور * (بذكرهم) * أي بوعظهم والبيان لهم قاله ابن عباس. وقرأ عيسى بذكراهم بألف التأنيث، وقتادة نذكرهم بالنون مضارع ذكر ونسبة الإتيان الحقيقي إلى الله لا تصح، وإنما هو مجاز أي بل آتاهم كتابنا أو رسولنا.
وقال الزمخشري: * (بذكرهم) * أي بالكتاب الذي هو ذكرهم أي وعظهم أوصيتهم، وفخرهم أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه ويقولون لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين.
* (أم تسألهم خرجا) * هذا استفهام توبيخ أيضا المعنى بل أتسألهم مالا فغلبوا لذلك واستثقلوك من أجله، قاله ابن عطية وخطب الزمخشري بأحسن كلام فقال * (أم تسئلهم) * على هدايتك لهم قليلا من عطاء الخلق والكثير من عطاء الخالق خير فقد ألزمهم الحجة في هذه الآيات، وقطع معاذيرهم وعللهم بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله مخبور سره علنه، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم، وأنه لم
(٣٨٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 377 378 379 380 381 382 383 384 385 386 387 ... » »»