تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ٣٧٠
كيانه فلم يحتج إلى توكيد ثان، وكنت سئلت لم دخلت اللام في قوله * (لميتون) * ولم تدخل في * (تبعثون) * فأجبت: بأن اللام مخلصة المضارع للحال غالبا فلا تجامع يوم القيامة، لأن أعمال * (تبعثون) * في الظرف المستقبل تخلصه للاستقبال فتنافي الحال، وإنما قلت غالبا لأنه قد جاءت قليلا مع الظرف المستقبل كقوله تعالى * (وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة) * على أنه يحتمل تأويل هذه الآية وإقرار اللام مخلصة المضارع للحال بأن يقدر عامل في يوم القيامة.
* (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين * وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه فى الارض وإنا على ذهاب به لقادرون * فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون * وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للاكلين * وإن لكم فى الانعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون * وعليها وعلى الفلك تحملون) *.
لما ذكر تعالى ابتداء خلق الإنسان وانتهاء أمره ذكره بنعمه و * (سبع طرائق) * السماوات قيل لها طرائق لتطارق بعضها فوق بعض، طارق النعل جعله على نعل، وطارق بين ثوبين لبس أحدهما على الآخر قاله الخليل والفراء والزجاج كقوله * (طباقا) *. وقيل: لأنها طرائق الملائكة في العروج. وقيل: لأنها طرائق في الكواكب في مسيرها. وقيل: لأن لكل سماء طريقة وهيئة غير هيئة الأخرى. قال ابن عطية: ويجوز أن تكون الطرائق بمعنى المبسوطات من طرقت الشيء.
* (وما كنا عن الخلق غافلين) * نفى تعالى عنه الغفلة عن خلقه وهو ما خلقه تعالى فهو حافظ السماوات من السقوط وحافظ عباده بما يصلحهم، أي هم بمرأى منا ندبرهم كما نشاء * (يقدر) * بتقدير منا معلوم لا يزيد ولا ينقص بحسب حاجات الخلق ومصالحهم * (فأسكناه فى الارض) * أي جعلنا مقره في الأرض. وعن ابن عباس: أنزل الله من الجنة خمسة أنهار جيحون وسيحون ودجلة والفرات والنيل. وفي قوله * (فأسكناه فى الارض) * دليل على أن مقر ما نزل من السماء هو في الأرض، فمنه الأنهار والعيون والآبار وكما أنزله تعالى بقدرته هو قادر على إذهابه. قال الزمخشري: * (على ذهاب به) * من أوقع النكرات وأحزها للمفصل والمعنى على وجه من وجوه الذهاب به وطريق من طرقه انتهى. و * (ذهاب) * مصدر ذهب، والباء في * (به) * للتعدية مرادفة للهمزة كقوله * (لذهب بسمعهم) * أي لأذهب سمعهم. وفي ذلك وعيد وتهديد أي في قدرتنا إذهابه فتهلكون بالعطش أنتم ومواشيكم، وهذا أبلغ في الإيعاد من قوله * (قل أرءيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين) * وقال مجاهد: ليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء. قال ابن عطية: ويمكن أن يقيد هذا بالعذاب وإلا فالأجاج نابت في الأرض مع القحط والعذب يقل مع القحط، وأيضا فالأحاديث تقتضي الماء الذي كان قبل خلق السماوات والأرض، ولا محالة أن الله قد جعل في الأرض ماء وأنزل من السماء انتهى. وقيل: ما نزل من السماء أصله من البحر، رفعه تعالى بلطفه وحسن تقديره من البحر إلى السماء حتى طاب بذلك الرفع والتصعيد، ثم أنزله إلى الأرض لينتفع به ولو كان باقيا على حاله ما انتفع به من ملوحته.
ولما ذكر تعالى نعمة الماء ذكر ما ينشأ عنه فقال * (فأنشأنا لكم به جنات) * وخص هذه الأنواع الثلاثة من النخل والعنب والزيتون لأنها أكرم الشجر وأجمعها للمنافع، ووصف النخل والعنب بقوله * (لكم فيها) * إلى آخره لأن ثمرهما جامع بين أمرين أنه فاكهة يتفكه بها، وطعام يؤكل رطبا ويابسا رطبا وعنبا وتمرا وزبيبا، والزيتون بأن دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعا، ويحتمل أن يكون قوله * (ومنها تأكلون) * من قولهم: فلان يأكل من حرفة يحترفها، ومن صنعة يغتلها، ومن تجارة يتربح بها يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه. كأنه قال: وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم منها ترتزقون وتتعيشون قاله الزمخشري. وقال الطبري: وذكر النخيل
(٣٧٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 365 366 367 368 369 370 371 372 373 374 375 ... » »»