تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ٣٦٨
والمحافظة متغايران بدأ أولا بالخشوع وهو الجامع للمراقبة القلبية والتذلل بالأفعال البدنية، وثنى بالمحافظة وهي تأديتها في وقتها بشروطها من طهارة المصلي وملبوسه ومكانه وأداء أركانها على أحسن هيئاتها ويكون ذلك دأبه في كل وقت. قال الزمخشري: ووحدت أولا ليفاد الخشوع في جنس الصلاة أي صلاة كانت، وجمعت آخرا لتفاد المحافظة على إعدادها وهي الصلوات الخمس والوتر والسنن المرتبة مع كل صلاة وصلاة الجمعة والعيدين والجنازة والاستسقاء والكسوف والخسوف وصلاة الضحى والتهجد وصلاة التسبيح وصلاة الحاجة وغيرها من النوافل.
* (أولائك) * أي الجامعون لهذه الأوصاف * (هم الوارثون) * الأحقاء أن يسموا وراثا دون من عداهم، ثم ترجم الوارثين بقوله * (الذين يرثون الفردوس) * فجاء بفخامة وجزالة لإرثهم لا تخفى على الناظر، ومعنى الإرث ما مر في سورة مريم انتهى. وتقدم الكلام في * (الفردوس) * في آخر الكهف.
* (ولقد خلقنا الإنسان) * الآية لما ذكر تعالى أن المتصفين بتلك الأوصاف الجليلة هم يرثون الفردوس فتضمن ذلك المعاد الأخروي، ذكر النشأة الأولى ليستدل بها على صحة النشأة الآخرة. وقال ابن عطية: هذا ابتداء كلام والواو في أوله عاطفة جملة كلام على جملة، وإن تباينت في المعاني انتهى. وقد بينا المناسبة بينهما ولم تتباين في المعاني من جميع الجهات. * (الإنسان) * هنا. قال قتادة وغيره ورواه عن سلمان وابن عباس آدم لأنه انسل من الطين * (ثم جعلنا) * عائد على ابن آدم وإن كان لم يذكر لشهرة الأمر وأن المعنى لا يصلح إلا له ونظيره * (حتى توارت بالحجاب) * أو على حذف مضاف أي ثم جعلنا نسله. وعن ابن عباس أيضا أن * (الإنسان) * ابن آدم و * (سلالة من طين) * صفوة الماء يعني المني وهو اسم جنس، والطين يراد به آدم إذ كانت نشأة من الطين كما سمى عرق الثرى أو جعل من الطين لكونه سلالة من أبويه وهما متغذيان بما يكون من الطين. وقال الزمخشري: خلق جوهر الإنسان أولا طينا ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة انتهى. فجعل الإنسان جنسا باعتبار حالتيه لا باعتبار كل مردود منه و * (من) * الأولى لابتداء الغاية و * (من) * الثانية قال الزمخشري للبيان كقوله * (من الاوثان) * انتهى. ولا تكون للبيان إلا على تقدير أن تكون السلالة هي الطين، أما إذا قلنا أنه ما انسل من الطين فتكون لابتداء الغاية. والقرار مكان الاستقرار والمراد هنا الرحم. والمكين المتمكن وصف القرار به لتمكنه في نفسه بحيث لا يعرض له اختلال، أو لتمكن من يحل فيه فوصف بذلك على سبيل المجاز كقوله طريق سائر لكونه يسار فيه، وتقدم تفسير النطفة والعلقة والمضغة.
وقرأ الجمهور عظاما و * (العظام) * الجمع فيهما. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبان والفضل والحسن وقتادة أيضا والأعرج والأعمش ومجاهد وابن محيصن بإفراد الأول وجمع الثاني. وقرأ أبو رجاء وإبراهيم بن أبي بكر ومجاهد أيضا بجمع الأول وإفراد الثاني فالإفراد يراد به الجنس. وقال الزمخشري: وضع الواحد موضع الجمع لزوال اللبس لأن الإنسان ذو عظام كثيرة انتهى. وهذا لا يجوز عند سيبويه وأصحابنا إلا في الضرورة وأنشدوا:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا ومعلوم أن هذا لا يلبس لأنهم كلهم ليس لهم بطن واحد ومع هذا خصوا مجيئه بالضرورة * (ثم خلقنا النطفة علقة) * قال ابن عباس والشعبي وأبو العالية والضحاك وابن زيد، هو نفخ الروح فيه. وقال ابن عباس أيضا: خروجه إلى الدنيا. وقالت فرقة: نبات شعره. وقال مجاهد: كمال شبابه. وقال ابن عباس أيضا تصرفه في أمور الدنيا. قال ابن
(٣٦٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 363 364 365 366 367 368 369 370 371 372 373 ... » »»