تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ٣٦٩
عطية: وهذا التخصيص لا وجه له وإنما هو عام في هذا وغيره من وجود النطق والإدراك، وأول رتبة من كونه آخرنفخ الروح وآخره تحصيله المعقولات إلى أن يموت انتهى. ملخصا وهو قريب مما رواه العوفي عن ابن عباس، ويدل عليه قوله بعد ذلك * (ثم إنكم بعد ذالك لميتون) *.
وقال الزمخشري ما ملخصه: * (خلقا ءاخر) * مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيوانا ناطقا سميعا بصيرا، وأودع كل عضو وكل جزء منه عجائب وغرائب لا تدرك بوصف ولا تبلغ بشرح، وقد احتج أبو حنيفة بقوله * (خلقا ءاخر) * على أن غاصب بيضة أفرخت عنده يضمن البيضة ولا يرد الفرخ. وقال * (أنشأنا) * جعل إنشاء الروح فيه وإتمام خلقه إنشاء له. قيل: وفي هذا رد على النظام في زعمه أن الإنسان هو الروح فقط، وقد بين تعالى أنه مركب من هذه الأشياء ورد على الفلاسفة في زعمهم أن الإنسان شيء لا ينقسم، وتبارك فعل ماض لا يتصرف. ومعناه تعالى وتقدس و * (أحسن الخالقين) * أفعل التفضيل والخلاف فيها إذا أضيفت إلى معرفة هل إضافتها محضة أم غير محضة؟ فمن قال محضة أعرب * (أحسن) * صفة، ومن قال غير محضة أعربه بدلا. وقيل: خبر مبتدأ محذوف تقديره هو أحسن الخالقين، ومعنى * (الخالقين) * المقدرين وهو وصف يطلق على غيرالله تعالى كما قال زهير:
ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري قال الأعلم: هذا مثل ضربه يعني زهيرا، والخالق الذي لا يقدر الأديم ويهيئه لأن يقطعه ويخرزه والفري القطع. والمعنى أنك إذا تهيأت لأمر مضيت له وأنفذته ولم تعجز عنه. وقال ابن عطية: معناه الصانعين يقال لمن صنع شيئا خلقه وأنشد بيت زهير. قال: ولا تنفي هذه اللفظة عن البشر في معنى الصنع إنما هي منفية بمعنى الاختراع. وقال ابن جريج: قال * (الخالقين) * لأنه أذن لعيسى في أن يخلق وتمييز أفعل التفضيل محذوف لدلالة الخالقين عليه، أي * (أحسن الخالقين) * خلقا أي المقدرين تقديرا. وروي أن عمر لما سمع * (ولقد خلقنا الإنسان) * إلى آخره قال * (فتبارك الله أحسن الخالقين) * فنزلت. وروي أن قائل ذلك معاذ. وقيل: عبد الله بن أبي سرح، وكانت سبب ارتداده ثم أسلم وحسن إسلامه.
وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة وابن محيصن لمائتون بالألف يريد حدوث الصفة، فيقال أنت مائت عن قليل وميت ولا يقال مائت للذي قد مات. قال الفراء: إنما يقال في الاستقبال فقط وكذا قال ابن مالك، وإذا قصد استقبال المصوغة من ثلاثي على غير فاعل ردت إليه ما لم يقدر الوقوع، يعني إنه لا يقال لمن مات مائت. وقال الزمخشري: والفرق بين الميت والمائت أن الميت كالحي صفة ثابتة، وأما المائت فيدل على الحدوث، تقول: زيد مائت الآن ومائت غدا كقولك: يموت ونحوها ضيق وضائق في قوله * (وضائق به صدرك) * انتهى. والإشارة بقوله بعد ذلك إلى هذا التطوير والإنشاء * (خلقا ءاخر) * أي وانقضاء مدة حياتكم.
* (ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) * ونبه تعالى على عظيم قدرته بالاختراع أولا، ثم بالإعدام ثم بالإيجاد، وذكره الموت والبعث لا يدل على انتفاء الحياة في القبر لأن المقصود ذكر الأجناس الثلاثة الإنشاء والإماتة والإعادة في القبر من جنس الإعادة ومعنى * (تبعثون) * للجزاء فإن قلت: الموت مقطوع به عند كل أحد، والبعث قد أنكرته طوائف واستبعدته وإن كان مقطوعا به من جهة الدليل لإمكانه في نفسه ومجئ السمع به فوجب القطع به فما بال جملة الموت جاءت مؤكدة بأن وباللام ولم تؤكد جملة البعث بأن؟ فالجواب: أنه بولغ في تأكيد ذلك تنبيها للإنسان أن يكون الموت نصب عينيه ولا يغفل عن ترقبه، فإن مآله إليه فكأنه أكدت جملته ثلاث مرار لهذا المعنى، لأن الإنسان في الحياة الدنيا يسعى فيها غاية السعي، ويؤكد ويجمع حتى كأنه مخلد فيها فنبه بذكر الموت مؤكدا مبالغا فيه ليقصر، وليعلم أن آخره إلى الفناء فيعمل لدار البقاء، ولم تؤكد جملة البعث إلا بأن لأنه أبرز في صورة المقطوع به الذي لا يمكن فيه نزاع ولا يقبل إنكارا وإنه حتم لا بد من
(٣٦٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 364 365 366 367 368 369 370 371 372 373 374 ... » »»