تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ٢٦٣
تولد من ذلك النسيان انتهى. وقاله غيره. وقال ابن عطية: ونسيان الذهول لا يمكن هنا لأنه لا يتعلق بالناسي عقاب انتهى. وقرأ اليماني والأعمش فنسي بضم النون وتشديد السين أي نساه الشيطان، والعزم التصميم والمضي.
قال الزمخشري: أي على ترك الأكل وأن يتصلب في ذلك تصلبا يؤيس الشيطان من التسويل له، والوجود يجوز أن يكون بمعنى العلم ومفعولاه * (له عزما) * وأن يكون نقيض العدم كأنه قال وعد منا * (له عزما) * انتهى. وقيل * (ولم نجد له عزما) * على المعصية وهذا يتخرج على قول من قال إنه فعل نسيانا. وقيل: حفظا لما أمر به. وقيل: صبرا عن أكل الشجرة. وقيل * (عزما) * في الاحتياط في كيفية الاجتهاد.
وتقدم الكلام على نظير قوله * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس أبى) * و * (أبى) * جملة مستأنفة مبينة أن امتناعه من السجود إنما كان عن إباء منه وامتناع، والظاهر حذف متعلق * (أبى) * وأنه يقدر هنا ما صرح به في الآية الأخرى * (أبى أن يكون مع الساجدين) * وقال الزمخشري * (أبى) * جملة مستأنفة كأنه جواب قائل قال: لم لم يسجد؟ والوجه أن لا يقدر له مفعول وهو السجود المدلول عليه بقوله * (اسجدوا) * وأن يكون معناه أظهر الإباء وتوقف وتثبط انتهى.
و * (هاذا) * إشارة إلى إبليس و * (عدو) * يطلق على الواحد والمثنى والمجموع، عرف تعالى آدم عداوة إبليس له ولزوجته ليحذراه فلن يغني الحذر عن القدر، وسبب العداوة فيما قيل إن إبليس كان حسودا فلما رأى آثار نعم الله على آدم حسده وعاداه. وقيل: العداوة حصلت من تنافي أصليهما إذ إبليس من النار وآدم من الماء والتراب * (فلا يخرجنكما) * النهي له والمراد غيره أي لا يقع منكما طاعة له في إغوائه فيكون ذلك سبب خروجكما من الجنة، وأسند الإخراج إليه وإن كان المخرج هو الله تعالى لما كان بوسوسته هو الذي فعل ما ترتب عليه الخروج * (فتشقى) * يحتمل أن يكون منصوبا بإضمار أن في جواب النهي وأن يكون مرفوعا على تقدير فأنت تشقى. وأسند الشقاء إليه وحده بعد اشتراكه مع زوجه في الإخراج من حيث كان هو المخاطب أولا والمقصود بالكلام ولأن في ضمن شقاء الرجل شقاء أهله، وفي سعادته سعادتها فاختصر الكلام بإسناده إليه دونها مع المحافظة على الفاصلة.
وقيل: أراد بالشقاء التعب في طلب القوت وذلك راجع إلى الرجل. وعن ابن جبير: أهبط له ثور أحمر يحرث عليه فيأكل بكد يمينه وعرق جبينه. وقرأ شيبة ونافع وحفص وابن سعدان * (وأنك لا تظمؤا) * بكسر همزة وإنك. وقرأ الجمهور بفتحها فالكسر عطف على أن لك، والفتح عطف على المصدر المنسبك من ن لا تجوع، أي أن لك انتفاء جوعك وانتفاء ظمئك، وجاز عطف * (إنك) * على أن لاشتراكهما في المصدر، ولو باشرتها إن المكسورة لم يجز ذلك وإن كا على تقديرها ألا ترى أنها معطوفة على اسم إن، وهو أن لا تجوع لكنه يجوز في العطف ما لا يجوز في المباشرة، ولما كان الشبع والري والكسوة والسكن هي الأمور التي هي ضرورية للإنسان اقتصر عليها لكونها كافية له. وفي الجنة ضروب من أنواع النعيم والراحة ما هذه بالنسبة إليها كالعدم فمنها الأمن من الموت الذي هو مكدر لكل لذة، والنظر إلى وجه الله سبحانه ورضاه تعالى عن أهلها، وأن لا سقم ولا حزن ولا ألم ولا كبر ولا هرم ولا غل ولا غضب ولا حدث ولا مقاذير ولا تكليف ولا حزن ولا خوف ولا ملل، وذكرت هذه الأربعة بلفظ النفي لأثبات أضدادها وهو الشبع والري والكسوة والسكن، وكانت نقائضها بلفظ النفي وهو الجوع والعري والظمأ والضحو ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة التي حذره منها حتى يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها.
قال ابن عطية: وكان عرف الكلام أن يكون الجوع مع الظمأ والعري مع الضحاء لأنها تتضاد إذ العري نفسه البرد فيؤذي والحر يفعل ذلك بالضاحي، وهذه الطريقة مهيع في كلام العرب أن يقرن النسب. ومنه قول امرئ القيس:
(٢٦٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 258 259 260 261 262 263 264 265 266 267 268 ... » »»