تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ٢٦٥
والصغائر فضلا عن أن تجسروا عن التورط في الكبائر، وعن بعضهم * (فغوى) * فسئم من كثرة الأكل، وهذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المسكور ما قبلها ألفا فيقول في فنى وبقى فنا وبقا، وهم بنو طيىء تفسير خبيث انتهى.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: لا يجوز لأحدنا اليوم أن يخبر بذلك عنه عليه السلام إلا إذا ذكرناه في أثناء قوله تعالى أو قول نبيه عليه السلام، فإما أن يبتدئ ذلك من قبل نفسه فليس بجائز لنا في آبائنا الأدنين إلينا المماثلين لنا، فكيف ففي أبينا الأقدم الأعظم الأكرم النبي المقدم الذي اجتباه الله وتاب عليه وغفر له. قال القرطبي: وإذا كان هذا في المخلوق لا يجوز والإخبار عن صفات الله كاليد والرجل والأصبع والجنب والنزول إلى غير ذلك أولى بالمنع، وأنه لا يجوز الابتداء بشيء من ذلك إلا في أثناء قراءة كتابه أو سنة رسول عليه السلام، ولهذا قال الإمام مالك بن أنس: من وصف شيئا من ذات الله مثل قوله تعالى * (وقالت اليهود يد الله مغلولة) * فأشار بيده إلى عنقه قطعت يده وكذلك في السمع والبصر يقطع ذلك منه لأنه شبه الله سبحانه بنفسه.
* (ثم اجتباه) * أي اصطفاه وقربه وتاب عليه أي قبل توبته * (وهدى) * أي هداه للنبوة أو إلى كيفية التوبة، أو هداه رشده حتى رجع إلى الندم. والضمير في * (اهبطا) * ضمير تثنية وهو أمر لآدم وحواء جعل هبوطهما عقوبتهما و * (جميعا) * حال منهما. وقال ابن عطية: ثم أخبرهما بقوله * (جميعا) * أن إبليس والحية مهبطان معهما، وأخبرهما أن العداوة بينهم وبين أنسالهم إلى يوم القيامة انتهى. ولا يدل قوله * (جميعا) * أن إبليس والحية يهبطان معهما لأن * (جميعا) * حال من ضمير الاثنين أي مجتمعين، والضمير في * (بعضكم لبعض) * ضمير جمع. قيل: يريد إبليس وبنيه وآدم وبنيه. وقيل: أراد آدم وذريته، فالعداوة واقعة بينهم والبغضاء لاختلاف الأديان وتشتت الآراء. وقيل: آدم وإبليس والحية. وقال أبو مسلم الأصبهاني: الخطاب لآدم عليه السلام ولكونهما جنسين صح قوله * (اهبطا) * ولأجل اشتمال كل واحد من الجنسين على الكثرة صح قوله * (فإما يأتينكم منى هدى) *.
وقال الزمخشري: لما كان آدم وحواء عليهما السلام أصلي البشر والسببين اللذين منهما نشؤوا وتفرعوا جعلا كأنهما البشر في أنفسهما فخوطبا مخاطبتهم، فقيل * (فإما يأتينكم) * على لفظ الجماعة، ونظيره إسنادهم الفعل إلى السبب وهو في الحقيقة للمسبب انتهى. و * (هدى) * شريعة الله. وعن ابن عباس ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم تلا * (فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى) * والمعنى أن الشقاء في الآخرة هو عقاب من ضل في الدنيا عن طريق الدين، فمن اتبع كتاب الله وامتثل أوامره وانتهى عن نواهيه نجا من الضلال ومن عقابه. وعن ابن جبير من قرأ القرآن واتبع ما فيه عصمه الله من الضلالة ووقاه سوء الحساب. وقال أبو عبد الله الرازي: وهذه الآية تدل على أن المراد بالهدى الذي ذكره الله تعالى اتباع الأدلة واتباعها لا يتكامل إلا بأن يستدل بها، وبأن يعمل بها، ومن هذه حاله فقد ضمن تعالى أن لا يضل ولا يشقى في الآخرة لأنه تعالى يهديه إلى الجنة. وقيل * (لا يضل * ولا يشقى) * في الدنيا. فإن قيل: المنعم بهدى الله قد يلحقه الشقاء في الدنيا. قلنا: المراد لا يضل في الدين ولا يشقى بسبب الدين فإن حصل بسبب آخر فلا بأس انتهى.
ولما ذكر تعالى من اتبع الهدى أتبعه بوعيد من أعرض عن ذكره، والذكر يقع على القرآن وعلى سائر الكتب الإلهية. وضنك: مصدر يوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع، والمعنى النكد الشاق من العيش والمنازل ومواطن الحرب نحوها. ومنه قول عنترة:
* إن المنية لو تمثل مثلت * مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل * وعن ابن عباس: نزلت هذه الآية في الأسود بن عبد الأسد المخزومي، والمراد ضغطة القبر تختلف فيه أضلاعه. وقال الحسن وقتادة والكلبي: هو الضيق في الآخرة في جهنم فإن طعامهم فيها الضريع والزقوم وشرابهم الحميم والغسلين، ولا يموتون فيها ولا يحيون، وقال عطاء: المعيشة الضنك معيشة الكافر لأنه غير موقن بالثواب والعقاب. وقال ابن جبير: يسلب القناعة حتى لا يشبع. وقال أبو سعيد الخدري والسدي: هو عذاب القبر، ورواه أبو هريرة
(٢٦٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 260 261 262 263 264 265 266 267 268 269 270 ... » »»