تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ٢٨
سألوك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم) إذا سئل شيئا وليس عنده أعرض عن السائل وسكت حياء، ويجوز أن يكون معنى * (وأما * أغنت عنهم) * وإن لم تنفعهم وترفع خصاصتهم لعدم الاستطاعة، ولا يريد الإعراض بالوجه كناية بالإعراض عن ذلك لأن من أبى أن يعطي أعرض بوجهه انتهى. والذي يظهر أنه تعالى لما أمر بإيتاء ذي القربى حقه ومن ذكر معه ونهاه عن التبذير، قال: وإن لم يكن منك إعراض عنهم فالضمير عائد عليهم، وعلل الإعراض بطلب الرحمة وهي كناية عن الرزق والتوسعة وطلب ذلك ناشىء عن فقدان ما يجود به ويؤتيه من سأله، وكأن المعنى وإن تعرض عنهم لإعسارك فوضع المسبب وهو ابتغاء الرحمة موضع السبب وهو الإعسار. وأجاز الزمخشري أن يكون * (ابتغاء رحمة من ربك) * علة لجواب الشرط فهو يتعلق به، وقدم عليه أي فقل لهم قولا سهلا لينا وعدهم وعدا جميلا رحمة لهم وتطييبا لقلوبهم ابتغاء رحمة من ربك، أي ابتغ رحمة الله التي ترجوها برحمتك عليهم انتهى. وما أجازه لا يجوز لأن ما بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبله لا يجوز في قولك أن يقم فاضرب خالدا أن تقول: إن يقم خالدا فاضرب، وهذا منصوص عليه فإن حذفت الفاء في مثل إن يقم يضرب خالدا فمذهب سيبويه والكسائي الجواز، فتقول: إن يقم خالدا نضرب، ومذهب الفراء المنع فإن كان معمول الفعل مرفوعا نحو إن تفعل يفعل زيد فلا يجوز تقديم زيد على أن يكون مرفوعا بيفعل، هذا وأجاز سيبويه أن يكون مرفوعا بفعل يفسره يفعل كأنك قلت: إن تفعل يفعل زيد يفعل، ومنع ذلك الكسائي والفراء. وقال ابن جبير: الضمير في * (عنهم) * عائد على المشركين، والمعنى * (وإما تعرضن عنهم) * لتكذيبهم إياك ابتغاء رحمة أي نصر لك عليهم أو هداية من الله لهم، وعلى هذا القول الميسور المداراة لهم باللسان قاله أبو سليمان الدمشقي ويسر يكون لازما ومتعديا فميسور من المتعدي تقول: يسرت لك كذا إذا أعددته. قال الزمخشري: يقال يسر الأمر وعسر مثل سعد ونحس فهو مفعول انتهى. ولمعنى هذه الآية أشار الشاعر في القصيدة التي تسمى باليتيمة في قوله:
* ليكن لديك لسائل فرج * إن لم يكن فليحسن الرد * وقال آخر * إن لم يكن ورق يوما أجود به * للسائلين فإني لين العود لا يعدم السائلون الخير من خلقي إما نوالي وإما حسن مردودي * * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) * الآية. قيل: نزلت في إعطائه صلى الله عليه وسلم) قميصه ولم يكن له غيره وبقي عريانا. وقيل: أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وعيينة مثل ذلك، والعباس بن مرداس خمسين ثم كملها مائة فنزلت، وهذه استعارة استعير فيها المحسوس للمعقول، وذلك أن البخل معنى قائم بالإنسان يمنعه من التصرف في ماله فاستعير له الغل الذي هو ضم اليد إلى العنق فامتنع من تصرف يده وإجالتها حيث تريد، وذكر اليد لأن بها الأخذ والإعطاء، واستعير بسط اليد لإذهاب المال وذلك أن قبض اليد يحبس ما فيها، وبسطها يذهب ما فيها، وطابق في الاستعارة بين بسط اليد وقبضها من حيث المعنى لأن جعل اليد مغلولة هو قبضها، وغلها أبلغ في القبض وقد طابق بينهما أبو تمام. فقال في المعتصم:
* تعود بسط الكف حتى لوانه * ثناها لقبض لم تجبه أنامله *
(٢٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 ... » »»