فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع من هذا الوجه. وقال ابن عطية: استعارة أي اقطعهما جانب الذل منك ودمث لهما نفسك وخلقك، وبولغ بذكر الذل هنا ولم يذكر في قوله: * (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) * وذلك بسبب عظم الحق انتهى. وبسبب شرف المأمور فإنه لا يناسب نسبة الذل إليه.
وقال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى * (جناح الذل) *؟ قلت: فيه وجهان. أحدهما: أن يكون المعنى واخفض لهما جناحك كما قال: * (واخفض جناحك للمؤمنين) * فأضافه إلى الذل أو الذل كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى واخفض لهما جناحك الذليل أو الذلول. والثاني: أن يجعل لذله أو لذله جناحا خفيضا كما جعل لبيد للشمال يدا، وللقرة زمانا مبالغة في التذلل والتواضع لهما انتهى. والمعنى أنه جعل اللين ذلا واستعار له جناحا ثم رشح هذا المجاز بأن أمر بخفضه. وحكي أن أبا تمام لما نظم قوله:
* لا تسقني ماء الملام فإنني * صب قد استعذبت ماء بكائيا * جاءه رجل بقصعة وقال له أعطني شيئا من ماء الملام، فقال له: حتى تأتيني بريشة من جناح الذل. وجناحا الإنسان جانباه، فالمعنى واخفض لهما جانبك ولا ترفعه فعل المتكبر عليهما. وقال بعض المتأخرين فأحسن:
* أراشوا جناحي ثم بلوه بالندى * فلم أستطع من أرضهم طيرانا * وقرأ الجمهور * (من الذل) * بضم الذال. وقرأ ابن عباس وعروة بن جبير والجحدري وابن وثاب بكسر الذال وذلك على الاستعارة في الناس لأن ذلك يستعمل في الدواب في ضد الصعوبة، كما أن الذل بالضم في ضد الغير من الناس، ومن الظاهر أنها للسبب أي الحامل لك على خفض الجناح هو رحمتك لهما إذ صارا مفتقرين لك حالة الكبر كما كنت مفتقرا إليهما حالة الصغر. قال أبو البقاء: * (من الرحمة) * أي من أجل الرحمة، أي من أجل رفقك بهما فمن متعلقة ب (اخفض)، ويجوز أن يكون حالا من جناح. وقال ابن عطية: من الرحمة هنا لبيان الجنس أي أن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكمنة في النفس لا بأن يكون ذلك استعمالا، ويصح أن يكون ذلك لابتداء الغاية انتهى. ثم أمره تعالى بأن يدعو الله بأن يرحمهما رحمته الباقية إذ رحمته عليهما لا بقاء لها. ثم نبه على العلة الموجبة للإحسان إليهما والبر بهما واسترحام الله لهما وهي تربيتهما له صغيرا، وتلك الحالة مما تزيده اشفاقا ورحمة لهما إذ هي تذكير لحالة إحسانهما إليه وقت أن لا يقدر على الإحسان لنفسه. وقال قتادة: نسخ الله من هذه الآية هذا اللفظ يعني * (وقل رب ارحمهما) * بقوله تعالى: * (ما كان للنبى والذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين) * وقيل: هي مخصوصة في حق المشركين. وقيل لا نسخ ولا تخصيص لأن له أن يدعو الله لوالديه الكافرين بالهداية والإرشاد وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان، والظاهر أن الكاف في * (كما) * للتعليل أي * (رب ارحمهما) * لتربيتهما لي وجزاء على إحسانهما إلي حالة الصغر والافتقار. وقال الحوفي: الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف تقديره رحمة مثل