تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ١٢٩
عن اتخاذ ذريته أولياء من دون الله تبعيدا عن المعاصي، وعن امتثال ما يوسوس به. وتقدم الكلام في استثناء إبليس أهو استثناء متصل أم منقطع، وهل هو من الملائكة أم ليس منهم في أوائل سورة البقرة فأغني عن إعادته، والظاهر من هذه الآية أنه ليس من الملائكة وإنما هو من الجن. قال قتادة: الجن حي من الملائكة خلقوا من نار السموم. وقال شهر بن حوشب: هو من الجن الذين ظفرت بهم الملائكة فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء. وقال الحسن وغيره: هو أول الجن وبداءتهم كآدم في الإنس. وقالت فرقة: كان إبليس وقبيله جنا لكن الشياطين اليوم من ذريته فهو كنوح في الإنس. وقال الزمخشري: كان من الجن كلام مستأنف جار مجري التعليل بعد استثناء إبليس من الساجدين كأن قائلا قال: ما له لم يسجد فقيل * (كان من الجن ففسق عن أمر ربه) * والفاء للتسبيب أيضا جعل كونه من الجن سببا في فسقه، يعني إنه لو كان ملكا كسائر من سجد لآدم لم يفسق عن أمر الله لأن الملائكة معصومون البتة لا يجوز عليهم ما يجوز على الجن والإنس كما قال: * (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) * وهذا الكلام المعترض تعمد من الله عز وعلا لصيانة الملائكة عن وقوع شبهة في عصمتهم، فما أبعد البون بين ما تعمده الله وبين قول من ضاده فزعم أنه كان ملكا ورئيسا على الملائكة فعصي فلعن ومسخ شيطانا، ثم وكه على ابن عباس انتهى.
والظاهر أن معنى * (ففسق عن أمر ربه) * فخرج عما أمره ربه به من السجود. قال رؤبة:
* يهوين في نجد وغورا غائرا * فواسقا عن قصدها حوائرا * وقيل: * (ففسق) * صار فاسقا كافرا بسبب أمر ربه الذي هو قوله * (اسجدوا لادم) * حيث لم يمتثله. قيل: ويحتمل أن يكون المعنى * (ففسق) * فأمر ربه أي بمشيئته وقضائه لأن المشيئة يطلق عليها أمر كما تقول: فعلت ذلك عن أمرك أي بحسب مرادك، والهمزة في * (أفتتخذونه) * للتوبيخ والإنكار والتعجب أي أبعد ما ظهر منه من الفسق والعصيان تتخذونه وذريته أولياء من دوني مع ثبوت عداوته لكم تتخذونه وليا. وقرأ عبيد الله بن زياد على المنبر وهو يخطب * (أفتتخذونه وذريته) * بفتح الذال، والظاهر أن لإبليس ذرية وقال بذلك قوم منهم قتادة والشعبي وابن زيد والضحاك والأعمش. قال قتادة: ينكح وينسل كما بنسل بنو آدم. وقال الشعبي: لا يكون ذرية إلا من زوجة. وقال ابن زيد: إن الله قال لإبليس إني لا أخلق لآدم ذرية إلا ذرأت لك مثلها، فليس يولد لولد آدم ولد إلا ولد معه شيطان يقرن. وقيل للرسول صلى الله عليه وسلم): ألك شيطان؟ قال: (نعم ألا إن الله تعالى أعانني عليه فأسلم). وسمي الضحاك وغيره من ذرية إبليس جماعة الله أعلم بصحة ذلك، وكذلك ذكروا كيفيات في وطئه وإنساله الله أعلم بذلك، وذهب قوم إلى أنه ليس لإبليس ولد وإنما الشياطين هم الذين يعينونه على بلوغ مقاصده، والمخصوص بالذم محذوف أي * (بئس للظالمين بدلا) * من الله إبليس وذريته وقال * (للظالمين) * لأنهم اعتاضوا من الحق بالباطل وجعلوا مكان ولايتهم إبليس وذريته، وهذا نفس الظالم لأنه وضع الشيء في غيره موضعه.
وقرأ الجمهور * (ما أشهدتهم) * بتاء المتكلم. وقرأ أبو جعفر وشيبة والسختياني وعون العقيلي وابن مقسم: ما أشهدناهم بنون العظمة، والظاهر عود ضمير المفعول في * (أشهدتهم) * على إبليس وذريته أي لم أشاورهم في * (خلق * السماوات والارض ولا * خلق أنفسهم) * بل خلقتهم على ما أردت، ولهذا قال * (وما كنت متخذ المضلين عضدا) *. وقال الزمخشري: يعني إنكم اتخذتم شركاء لي في العبادة وإنما كانوا يكونون شركاء فيها لو كانوا شركاء في الإلهية فنفي
(١٢٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 124 125 126 127 128 129 130 131 132 133 134 ... » »»