تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ١٢٤
الكلام على هذه الجملة في أواخر البقرة. وتمنيه انتفاء الشرك الظاهر أنه صدر منه ذلك في حالة الدنيا على جهة التوبة بعد حلول المصيبة، وفي ذلك زجر للكفرة من قريش وغيرهم لئلا يجيء لهم حال يؤمنون فيها بعد نقم تحل بهم، قيل: أرسل الله عليها نارا فأكلتها فتذكر موعظة أخيه، وعلم أنه أتى من جهة شركة وطغيانه فتمنى لو لم يكن مشركا. وقال بعض المفسرين: هي حكاية عن قول الكافر هذه القالة في الآخرة، ولما افتخر بكثرة ماله وعزة نفره أخبر تعالى أنه لم تكن * (له فئة) * أي جماعة تنصره ولا كان هو منتصرا بنفسه، وجمع الضمير في * (ينصرونه) * على المعنى كما أفرده على اللفظ في قوله * (فئة تقاتل فى سبيل الله) * واحتمل النفي أن يكون منسحبا على القيد فقط، أي له فئة لكنه لا يقدر على نصره. وأن يكون منسحبا على القيد، والمراد انتفاؤه لانتفاء ما هو وصف له أي لا فئة فلا نصر وما كان منتصرا بقوة عن انتقام الله.
وقرأ الأخوان ومجاهد وابن وثاب والأعمش وطلحة وأيوب وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير ولم يكن بالياء لأن تأنيث الفئة مجاز. وقرأ باقي السبعة والحسن وأبو جعفر وشيبة بالتاء. وقرأ ابن أبي عبلة * (فئة) * تنصره على اللفظ والحقيقة في هنالك أن يكون ظرف مكان للبعد، فالظاهر أنه أشير به لدار الآخرة أي في تلك الدار الولاية لله كقوله * (لمن الملك اليوم) *. قيل: لما نفى عنه الفئة الناصرة في الدنيا نفى عنه أن ينتصر في الآخرة، فقال * (وما كان منتصرا * هنالك) * أي في الدار الآخرة، فيكون * (هنالك) * معمولا لقوله * (منتصرا) *. وقال الزجاج: أي * (وما كانت * منتصرا) * في تلك الحال و * (الولاية لله) * على هذا مبتدأ وخبر. وقيل: * (هنالك الولاية لله) * مبتدأ وخبر، والوقف على قوله * (منتصرا) *.
وقرأ الأخوان والأعمش وابن وثاب وشيبة وابن غزوان عن طلحة وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير * (الولاية) * بكسر الواو وهي بمعنى الرئاسة والرعاية. وقرأ باقي السبعة بفتحها بمعنى الموالاة والصلة. وحكي عن أبي عمرو والأصمعي أن كسر الواو هنا لحن لأن فعالة إنما تجيء فيما كان صنعة أو معنى متقلدا وليس هنالك تولي أمور. وقال الزمخشري: * (الولاية) * بالفتح النصرة والتولي بالكسر السلطان والملك، وقد قرىء بهما والمعنى هنالك أي في ذلك المقام، وتلك الحال النصرة لله وحده لا يملكها غيره ولا يستطيعها أحد سواه تقريرا لقوله * (ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله) * أو * (هنالك) * السلطان والملك * (لله) * لا يغلب ولا يمتنع منه، أو في مثل تلك الحال الشديدة يتولى الله ويؤمن به كل مضطر يعني إن قوله * (ويقول ياليتنى لم أشرك بربى أحدا) * كلمة ألجىء إليها فقالها فزعا من شؤم كفره، ولولا ذلك لم يقلها. ويجوز أن يكون المعنى * (هنالك الولاية لله) * ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة وينتقم لهم ويشفي صدورهم من أعدائهم، يعني أنه نصر فيما فعل بالكافر أخاه المؤمن. وصدق قوله عسى * (ربى إن * يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء) * ويعضده قوله * (هو خير ثوابا وخير عقبا) * أي لأوليائه انتهى.
وقرأ النحويان وحميد والأعمش وابن أبي ليلى وابن مناذر واليزيدي وابن عيسى الأصبهاني * (الحق) * برفع القاف صفة للولاية. وقرأ باقي السبعة بخفضها وصفا لله تعالى. وقرأ أبي * (هنالك الولاية) * الحق لله برفع الحق للولاية وتقديمها على قوله * (لله) *. وقرأ أبو حيوة وزيد بن علي وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال ويعقوب عن عصمة عن أبي عمرو * (لله الحق) * بنصب القاف. قال الزمخشري: على التأكيد كقولك هذا عبد الله الحق لا الباطل وهي قراءة حسنة فصيحة، وكان عمرو بن عبيد رحمة الله عليه ورضوانه من أفصح الناس وأنصحهم انتهى. وكان قد قال الزمخشري: وقرأ عمرو بن عبيد رحمه الله انتهى. فترحم عليه وترضى عنه إذ هو من أوائل أكابر شيوخه المعتزلة، وكان على غاية من الزهد والعبادة وله أخبار في ذلك
(١٢٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 129 ... » »»