تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ١٢٧
والتلاشي إلى أن فرقته الرياح ولعبت به ذاهبة وجائية، أخبر تعالى عن اقتداره على كل شيء من الإنشاء والإفناء وغيرهما مما تتعلق به قدرته تعالى.
ولما حقر تعالى حال الدنيا بما ضربه من ذلك المثل ذكر أن ما افتخر به عيينة وأضرا به من المال والبنين إنما ذلك * (زينة) * هذه * (قالوا لن) * المحقرة، وإن مصير ذلك إنما هو إلى النفاد، فينبغي أن لا يكترث به، وأخبر تعالى بزينة المال والبنين على تقدير حذف مضاف أي مقر * (زينة) * أو وضع المال والبنين منزلة المعنى والكثرة، فأخبر عن ذلك بقوله * (زينة) * ولما ذكر مآل ما في الحياة الدنيا إلى الفناء اندرج فيه هذا الجزئي من كون المال والبنين زينة، وأنتج. أن زينة الحياة الدنيا فإن إذ ذاك فرد من أفراد ما في الحياة الدنيا، وترتيب هذا الإنتاج أن يقال * (المال والبنون زينة الحيواة الدنيا) * وكل ما كان * (زينة الحيواة الدنيا) * فهو سريع الانقضاء فالمال والبنون سريع الانقضاء، ومن بديهة العقل أن ما كان كذلك يقبح بالعاقل أن يفتخر به أو يفرح بسببه، وهذا برهان على فساد قول أولئك المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال والأولاد.
* (والباقيات الصالحات) * قال الجمهور هي الكلمات المأثور فضلها سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل هي الصلوات الخمس. وعن ابن عباس أنه كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة، ورجحه الطبري وقول الجمهور مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم) من طريق أبي هريرة وغيره. وعن قتادة: كل ما أريد به وجه الله. وعن الحسن وابن عطاء: أنا النيات الصالحة فإن بها تتقبل الأعمال وترفع، ومعنى * (خير عند ربك ثوابا) * أنها دائمة باقية وخيرات الدنيا منقرضة فانية، والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي. * (وخير أملا) * أي وخير رجاء لأن صاحبها يأمل في الدنيا ثواب الله ونصيبه في الآخرة دون ذي المال والبنين العاري من الباقيات الصالحات فإنه لا يرجو ثوابا.
ولما ذكر تعالى ما يؤول إليه حال الدنيا من النفاد أعقب ذلك بأوائل أحوال يوم القيامة فقال * (ويوم * منه الجبال) * كقوله * (يوم تمور السماء مورا * وتسير الجبال سيرا) *. وقال: * (وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب) *. وقال * (فقل ينسفها ربى نسفا * فيذرها قاعا صفصفا) *. وقال * (وإذا الجبال سيرت) * والمعنى أنه ينفك نظام هذا العالم الدنيوي ويؤتي بالعالم الأخروي، وانتصب * (ويوم) * على إضمار اذكر أو بالفعل المضمر عند قوله * (لقد جئتمونا) * أي قلنا يوم كذا لقد. وقرأ نافع وحمزة والكسائي والأعرج وشيبة وعاصم وابن مصرف وأبو عبد الرحمن * (نسير) * بنون العظمة الجبال بالنصب، وابن عامر وابن كثير وأبو عمرو والحسن وشبل وقتادة وعيسى والزهري وحميد وطلحة واليزيدي والزبيري عن رجاله عن يعقوب بضم التاء وفتح الياء المشددة مبنيا للمفعول * (الجبال) * بالرفع وعن الحسن كذلك إلا أنه بضم الياء باثنتين من تحتها، وابن محيصن ومحبوب عن أبي عمر وتسير من سارت الجبال. وقرأ أبي سيرت الجبال * (وترى الارض بارزة) * أي منكشفة ظاهرة لذهاب الجبال والظراب والشجر والعمارة، أو ترى أهل الأرض بارزين من بطنها. وقرأ عيسى * (وترى الارض) * مبنيا للمفعول * (وحشرناهم) * أي أقمناهم من قبورهم وجمعناهم لعرصة القيامة.
وقال الزمخشري: فإن قلت: لم جيء بحشرناهم ماضيا بعد تسير وترى؟ قلت: للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال والعظائم، كأنه قيل: * (وحشرناهم) * قبل ذلك انتهى. والأولى أن تكون الواو واو الحال لا واو العطف، والمعنى وقد * (* حشرناهم) * أي يوقع التسيير في حالة حشرهم. وقيل: * (بارزة وحشرناهم) * * (وعرضوا) * * (ووضع الكتاب) * مما وضع فيه الماضي موضع المستقبل لتحقق وقوعه. وقرأ الجمهور: نغادر بنون العظمة وقتادة تغادر على الإسناد إلى القدرة أو الأرض، وأبان بن يزيد عن عاصم كذلك أو بفتح الدال مبنيا للمفعول واحد بالرفع وعصمة كذلك، والضحاك نغدر بضم النون وإسكان الغين وكسر الدال، وانتصب * (صفا) * على الحال وهو مفرد تنزل منزلة الجمع أي صفوفا. وفي الحديث الصحيح: (يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفا يسمعهم الداعي وينفذهم البصر). الحديث بطوله وفي حديث آخر: (أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون صفا أنتم منها ثمانون صفا). أو انتصب
(١٢٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131 132 ... » »»