تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٣٤٧
والاستيئاس من النصر، أو من إيمان قومهم قولان. وحتى غاية لما قبلها، وليس في اللفظ ما يكون له غاية، فاحتيج إلى تقدير فقدره الزمخشري: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا، فتراخى نصرهم حتى إذا استيأسوا عن النصر. وقال ابن عطية: ويتضمن قوله: أفلم يسيروا إلى ما قبلهم، أن الرسل الذين بعثهم الله من أهل القرى دعوهم فلم يؤمنوا بهم حتى نزلت بهم المثلات، فصاروا في حيزة من يعتبر بعاقبته، فلهذا المضمن حسن أن يدخل حتى في قوله: حتى إذا استيأس الرسل انتهى. ولم يتحصل لنا من كلامه شيء يكون ما بعد حتى غاية له، لأنه علق الغاية بما ادعى أنه فهم ذلك من قوله: أفلم يسيروا الآية. وقال أبو الفرج بن الجوزي: المعنى متعلق بالآية الأولى فتقديره: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا يدعوا قومهم فكذبوهم، وصبروا وطال دعاؤهم، وتكذيب قومهم حتى إذا استيأس الرسل. وقال القرطبي في تفسيره: المعنى وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالا، ثم لم نعاقب أممهم بالعقاب حتى إذا استيأس الرسل. وقرأ أبي، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وطلحة، والأعمش، والكوفيون: كذبوا بتخفيف الذال، وباقي السبعة، والحسن وقتادة، ومحمد بن كعب، وأبو رجاء، وابن مليكة، والأعرج، وعائشة بخلاف عنها بتشديدها. وهما مبنيان للمفعول، فالضمائر على قراءة التشديد عائدة كلها على الرسل، والمعنى: إن الرسل أيقنوا أنهم كذبهم قومهم المشركون. قال ابن عطية: ويحتمل أن كون الظن على بابه يعني من ترجيح أحد الجائزين قال: والضمير للرسل، والمكذبون مؤمنون أرسل إليه أي: لما طالت المواعيد حسبت الرسل أن المؤمنين أولا قد كذبوهم وارتابوا بقولهم. وعلى قراءة التخفيف، فالضمير في وظنوا عائد على الرسل إليهم لتقدمهم في الذكر في قوله: كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، ولأن الرسل تستدعي مرسلا إليهم، وفي أنهم. وفي قد كذبوا عائد على الرسل، والمعنى: وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبهم من ادعوا أنه جاءهم بالوحي عن الله وبنصرهم، إذ لم يؤمنوا به. ويجوز في هذه القراءة أن تكون الضمائر الثلاثة عائدة على المرسلم إليهم أي: وظن المرسل أنهم قد كذبهم الرسل فيما ادعوه من النبوة، وفيما يوعدون به من لم يؤمن بهم من العذاب. وهذا مشهور قول ابن عباس، وتأويل عبد الله وابن جبير ومجاهد. ولا يجوز أن تكون الضمائر في هذه القراءة عائدة على الرسل، لأنهم معصومون، فلا يمكن أن يظن أحد منهم أنه قد كذبه من جاءه بالوحي عن الله. وقال الزمخشري في هذه القراءة: حتى إذا استيأسوا من النصر وظنوا أنهم قد كذبوا أي: كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم أنهم ينصرون أو رجاهم كقوله: رجاء صادق ورجاء كاذب. والمعنى: أن مدة التكذيب والعداوة من الكفار، وانتظار النصر من الله وتأميله قد تطاولت عليهم وتمادت، حتى استشعروا القنوط، وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب انتهى. فجعل الضمائر كلها للرسل، وجعل الفاعل الذي صرف من قوله: قد كذبوا، إما أنفسهم، وإما رجاؤهم. وفي قوله: إخراج الظن عن معنى الترجيح، وعن معنى اليقين إلى معنى التوهم، حتى يجري الضمائر كلها في القراءتين على سنن واحدة. وروي عن ابن مسعود، وابن عباس، وابن جبير: أن الضمير في وظنوا، وفي قد كذبوا، عائد على الرسل والمعنى: كذبهم من تباعدهم عن الله والظن على بابه قالوا: والرسل بشر، فضعفوا وساء ظنهم. وردت عائشة وجماعة من أهل العلم هذا التأويل، وأعظموا أن يوصف الرسل بهذا.
قال الزمخشري: إن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال، ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية. وأما الظن الذي هو ترجيح أحد الجانبين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين، فما بال رسل الله الذين هم أعرف بربهم، وأنه متعال عن خلف الميعاد، منزه عن كل قبيح انتهى. وآخره مذهب الاعتزال. فقال أبو علي: إن ذهب ذاهب إلى أن المعنى ظن الرسل أن الذي وعد الله أممهم على لسانهم قد كذبوا فيه، فقد أتى عظيما لا يجوز أن ينسب مثله إلى الأنبياء، ولا إلى صالحي عباد الله قال: وكذلك من زعم أن ابن عباس ذهب إلى أن الرسل قد ضعفوا وظنوا أنهم قد أخلفوا، لأن الله لا يخلف الميعاد، ولا مبدل لكلماته. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، والضحاك: قد كذبوا بتخفيف
(٣٤٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 342 343 344 345 346 347 348 349 350 351 352 ... » »»