تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٣٤٦
ذلك وهو شريعة الإسلام والإيمان، وتوحيد الله. فقال: قل يا محمد هذا الطريقة والدعوة طريقي التي سلكتها وأنا عليها، ثم فسر تلك السبيل فقال: أدعو إلى الله يعني: لا إلى غيره من ملك أو إنسان أو كوكب أو صنم، إنما دعاني إلى الله وحده. قال ابن عباس: سبيلي أي دعوتي. وقال عكرمة: صلاتي، وقال ابن زيد: سنتي، وقال مقاتل والجمهور: ديني.
وقرأ عبد الله: قل هذا سبيلي على التذكير. والسبيل يذكر ويؤنث، ومفعول أدعو هو محذوف تقديره: أدعو الناس. والظاهر تعلق على بصيرة بأدعو، وإنا توكيد للضمير المستكن في ادعو، ومن معطوف على ذلك الضمير والمعنى: أدعو أنا إليها من اتبعني. ويجوز أن يكون على بصيرة خبرا مقدما، وإنا مبتدأ، ومن معطوف عليه. ويجوز أن يكون على بصيرة حالا من ضمير ادعو، فيتعلق بمحذوف، ويكون أنا فاعلا بالجار والمجرور النائب عن ذلك المحذوف، ومن اتبعني معطوف على أنا. وأجاز أبو البقاء أن يكون: ومن اتبعني مبتدأ خبره محذوف تقديره كذلك أي: داع إلى الله على بصيرة. ومعنى بصيرة حجة واضحة وبرهان متيقن من قوله: * (قد جاءتكم * بصائر من ربكم) * وسبحان الله داخل تحت قوله قل: أي قل، وتبرئة الله من الشركاء أي: براءة الله من أن يكون له شريك. ولما أمر بأن يخبر عن نفسه أنه يدعو هو ومن اتبعه إلى الله، وأمر أن يخبر أنه ينزه الله عن الشركاء، أمر أن يخبر أنه في خاصة نفسه منتف عن الشرك، وأنه ليس ممن أشرك. وهو نفي عام في الأزمان لم يكن منهم، ولا في وقت من الأوقات. إلا رجالا حصر في الرسل دعاة إلى الله، فلا يكون ملكا. وهذا رد على من قال: * (لو شاء ربنا لانزل ملائكة) * وكذلك، قال: * (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) * وقال ابن عباس: يعني رجالا لا نساء، فالرسول لا يكون امرأة، وهل كان في النساء نبية فيه خلاف؟ والنبي أعم من الرسول، لأنه منطلق على من يأتيه الوحي سواء أرسل أو لم يرسل، قال الشاعر في سجاح المتنبئة:
* أمست نبيتنا أنثى نطيف بها * ولم تزل أنبياء الله ذكرانا * فلعنة الله والأقوام كلهم * على سجاح ومن بالإفك أغرانا * * أعني مسيلمة الكذاب لا سقيت * أصداؤه ماء مزن أينما كانا * وقرأ أبو عبد الرحمن، وطلحة، وحفص: نوحي بالنون وكسر الحاء، موافقا لقوله: وما أرسلنا. وقرأ الجمهور بالياء وفتح الحاء مبنيا للمفعول. والقرى المدن. قال ابن زيد: أهل القرى أعلم وأحلم من أهل البادية، فإنهم قليل نبلهم، ولم ينشئ الله قط منهم رسولا. وقال الحسن: لم يبعث الله رسولا من أهل البادية، ولا من النساء، ولا من الجن. والتبدي مكروه إلا في الفتن، ففي الحديث: (من بدا جفا) ثم استفهم استفهام توبخ وتفريع. والضمير في يسيروا عائد على من أنكر إرسال الرسل من البشر، ومن عاند الرسول وأنكر رسالته كفر أي: هلا يسيرون في الأرض فيعلمون بالتواتر أخبار الرسل السابقة، ويرون مصارع الأمم المكذبة، فيعتبرون بذلك؟ ولدار الآخرة خير، هذا حض على العمل لدار الآخرة والاستعداد لها، واتقاء المهلكات، ففي هذه الإضافة تخريجان: أحدهما: أنها من إضافة الموصوف إلى صفته، وأصله: ولدار الآخرة. والثاني: أن يكون من حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه، وأصله: ولدار المدة الآخرة أو النشأة الآخرة. والأول: تخريج كوفي، والثاني: تخريج بصرى.
وقرأ الجمهور: أفلا يعقلون بالياء رعيا لقوله: أفلم يسيروا. وقرأ الحسن، وعلقمة، والأعرج، وعاصم، وابن عامر، ونافع: بالتاء على خطاب هذه الأمة تحذيرا لهم مما وقع فيه أولئك، فيصيبهم ما أصابهم. قال الكرماني: أفلا يعقلون أنها خير. فيتوسلوا إليها بالإيمان انتهى.
(٣٤٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 341 342 343 344 345 346 347 348 349 350 351 ... » »»