تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٣٤٣
عن ذكر ما تعلق بقول إخوته، وتناسيا لما جرى منهم إذ قال: * (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم) * وتنبيها على طهارة نفسه، وبراءتها مما نسب إليه من المراودة. وعلى ما تنقل إليه من الرياسة في الدنيا بعد خروجه من السجن بخلاف ما تنقل إليه بالخروج من الجب، إلى أن بيع مع العبيد، وجاء بكم من البدو من البادية. وكان ينزل يعقوب عليه السلام بأطراف الشام ببادية فلسطين، كان رب إبل وغنم وبادية. وقال الزمخشري: كانوا أهل عمد وأصحاب مواش يتنقلون في المياه والمناجع. قيل: كان تحول إلى بادية وسكنها، فإن الله لم يبعث نبيا من أهل البادية. وقيل: كان خرج إلى بدا وهو موضع وإياه عني جميل بقوله:
* وأنت التي جببت شعبا إلى بدا * إلي وأوطاني بلاد سواهما * وليعقوب عليه السلام بهذا الموضع مسجد تحت جبل. يقال: بدا القوم بدوا، إذا أتوا بدا كما يقال: غاروا غورا. إذ أتوا الغور. والمعنى: وجاء بكم من مكان بدا، ذكره القشيري، وحكاه الماوردي عن الضحاك، وعن ابن عباس. وقابل يوسف عليه السلام نعمة إخراجه من السجن بمجيئهم من البدو، والإشارة بذلك إلى الاجتماع بابيه وأخوته، وزوال حزن أبيه. ففي الحديث: * (من يرد * الله به * خيرا) * من بعد أن نزغ أي أفسد، وتقدم الكلام على نزع، وأسند النزع إلى الشيطان لأنه الموسوس كما قال: * (هاذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان عنها) * وذكر هذا القدر من أمر أخوته، لأن النعمة إذا جاءت إثر شدة وبلاء كانت أحسن موقعا. إن ربي لطيف، أي: لطيف التدبير لما يشاء من الأمور، رفيق. ومن في قوله من الملك، وفي من تأويل للتبعيض، لأنه لم يؤته إلا بعض ملك الدنيا، ولا علمه إلا بعض التأويل. ويبعد قول من جعل من زائدة، أو جعلها البيان الجنس، والظاهر أن الملك هنا ملك مصر. وقيل: ملك نفسه من إنفاذ شهوته. وقال عطاء: ملك حساده بالطاعة، ونيل الأماني من الملك. وقرأ عبد الله، وعمرو بن ذر: آتيتن، وعلمتن بحذف الياء منهما اكتفاء بالكسرة عنهما، مع كونهما ثابتتين خطا. وحكى ابن عطية عن ابن ذرانة: قرأ رب آتيتني بغير قد، وانتصب فاطر على الصفة، أو على النداء. وأنت وليي تتولاني بالنعمة في الدارين، وتوصل الملك الفاني بالملك الباقي. وذكر كثير من المفسرين أنه لما عد نعم الله عنده تشوق إلى لقاء ربه ولحاقه بصالحي سلفه، ورأى أن الدنيا كلها فانية فتمنى الموت. وقال ابن عباس: لم يتمن الموت حي غير يوسف، والذي يظهر أنه ليس في الآية تمنى الموت، وإنما عدد نعمه عليه، ثم دعا أن يتم عليه النعم في باقي أمره أي: توفني إذا حان أجلي على الإسلام، واجعل لحاقي بالصالحين. وإنما تمنى الوفاة على الإسلام لا الموت، والصالحين أهل الجنة أو الأنبياء، أو آباؤه إبراهيم وإسحاق ويعقوب. وعلماء التاريخ يزعمون أن يوسف عليه السلام عاش مائة عام وسبعة أعوام، وله من الولد: افراثيم، ومنشأ، ورحمة زوجة أيوب عليه السلام. قال الذهبي: وولد لافراثيم نون، ولنون يوشع، وهو فتى موسى عليه السلام. وولد لمنشأ موسى، وهو قبل موسى بن عمران عليه السلام. ويزعم أهل التوراة أنه صاحب الخضر، وكان ابن عباس ينكر ذلك. وثبت في الصحيح أن صاحب الخضر هو موسى بن عمران، وتوارثت الفراعنة ملك مصر، ولم تزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف عليه السلام إلى أن بعث موسى عليه السلام.
2 (* (ذلك من أنبآء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون * ومآ
(٣٤٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 338 339 340 341 342 343 344 345 346 347 348 ... » »»