تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٣٣٢
أرض مصر التي فيها الواقعة، ثم غيا ذلك بغايتين: إحداهما: خاصة وهي قوله: حتى يأذن لي أبي، يعني في الانصراف إليه. والثانية: عامة وهي قوله: أو يحكم الله لي، لأن إذن الله له هو من حكم الله له في مفارقة أرض مصر، وكأنه لما علق الأمر بالغاية الخاصة رجع إلى نفسه فأتى بغاية عامة تفويضا لحكم الله تعالى، ورجوعا لي من له الحكم حقيقة، ومقصوده التضييق على نفسه، كأنه سجنها في القطر الذي أداه إلى سخط أبيه إبلاء لعذره. وحكم الله تعالى له بجميع أنواع العذر كالموت، وخلاص أخيه، أو انتصافه من أخذ أخيه. وقال أبو صالح: أو يحكم الله لي بالسيف، أو غير ذلك. والظاهر أن ويحكم معطوف على يأذن. وجوز أن يكون منصوبا بإضمار أن بعد أو في جواب النفي، وهو: فلن أبرح الأرض أي: إلا أن يحكم الله لي، كقولك: لألزمنك أو تقضيني حقي، أي: إلا أن تقضيني، ومعناها ومعنى الغاية متقاربان.
روي أنهم لما وصلوا إلى يعقوب أخبروه بالقصة فبكى وقال: يا بني ما تذهبون عني مرة إلا نقصتم، ذهبتم فنقصت مشمعون حيث ارتهن، ثم ذهبتم فنقصتم بنيامين وروبيل. والظاهر أن الأمر بالرجوع هو من قول كبيرهم. وقيل: من قول يوسف لهم. وقرأ الجمهور: سرق ثلاثيا مبنيا للفاعل، إخبارا بظاهر الحال. وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، والكسائي في رواية سرق بتشديد الراء مبنيا للمفعول، لم يقطعوا عليه بالسرقة بل ذكروا أنه نسب إلى السرقة. ويكون معنى: وما شهدنا إلا بما علمنا من التسريق. وما كنا للغيب أي: للأمر الخفي حافظين، أسرق بالصحة أم دس الصاع في رحله ولم يشعر؟ وقرأ الضحاك: سارق اسم فاعل، وعلى قراءة سرق وسارق اختلف التأويل في قوله: إلا بما علمنا. قال الزمخشري: بما علمنا من سرقته، وتيقنا لأن الصواع أخرج من وعائه، ولا شيء أبين من هذا. وقال ابن عطية: أي، وقولنا لك إن ابنك سرق إنما هي شهادة عندك بما علمناه من ظاهر ما جرى، والعلم في الغيب إلى الله تعالى ليس ذلك في حفظنا، هذا قول ابن إسحاق: وقال ابن زيد: أرادوا وما شهدنا به عند يوسف أن السارق يسترق في شرعك، إلا بما علمنا من ذلك، وما كنا للغيب حافظين أن السرقة تخرج من رحل أحدنا، بل حسبنا أن ذلك لا يكون البتة، فشهدنا عنده حين سألنا بعلمنا. ويحتمل قوله: وما كنا للغيب حافظين أي: حين واثقناك، إنما قصدنا أن لا يقع منا نحن في جهته شيء يكرهه، ولم نعلم الغيب في أنه سيأتي هو بما يوجب رقه. وقال الزمخشري: وما كنا للغيب حافظين، وما علمنا أنه يسترق حين أعطيناك الموثق، أو ربما علمنا أنك تصاب كما أصبت بيوسف. ومن غريب التفسير أن المعنى قولهم: للغيب، لليل والغيب الليل بلغة حمير، وكأنهم قالوا: وما شهدنا إلا بما علمنا من ظاهر حاله، وما كنا بالليل حافظين لما يقع من سرقته هو، أو التدليس عليه. وفي الكلام حذف تقديره: رجعوا إلى أبيهم وأخبر بالقصة. وقول من قال: ارجعوا ثم استشهدوا بأهل القرية التي كانوا فيها وهي مصر قاله: ابن عباس أي: أرسل إلى القرية واسأل عن كنه القصة. والعير كانوا قوما من كنعان من جران يعقوب. وقيل: من أهل صنعاء. فالظاهر أن ذلك على إضمار أهل كأنه قيل: وسل أهل القرية وأهل العير، إلا أن أريد بالعير القافلة، فلا إضمار في قوله والعير. وأحالوا في توضيح القصة على ناس حاضرين الحال فيشهدون بما سمعوا، وعلى ناس غيب يرسل إليهم فيسألون. وقالت فرقة: بل أحالوه على سؤال الجمادات والبهائم حقيقة، ومن حيث هو نبي، ولا يبعد أن يخبره بالحقيقة، وحذف المضاف هو قول الجمهور. قال ابن عطية: وهذا مجاز. وحكى أبو المعالي عن بعض المتكلمين أنه قال: هذا من الحذف وليس من المجاز قال: وإنما المجاز لفظة استعيرت لغير ما هي له قال: وحذف المضاف هو عين المجاز، وعظمة هذا مذهب سيبويه وغيره. وحكى أنه قول الجمهور أو نحو هذا انتهى. وفي المحصول لأبي عبد الله محمد الرازي، وفي مختصر أنه إن الإضمار والمجاز متباينان ليس أحدهما قسما من الآخر. وبل للإضراب، فيقتضي كلاما محذوفا قبلها حتى يصح الإضراب فيها وتقديره: ليس الأمر حقيقة كما أخبرتم، بل سولت. قال ابن عطية: والظاهر أن قوله بل سولت لكم أنفسكم أمرا، إنما هو ظن سوء بهم كما كان في قصة يوسف
(٣٣٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 327 328 329 330 331 332 333 334 335 336 337 ... » »»